رواية شوق مزمن لأنور الخطيب -الفصلان السادس والسابع

رواية شوق مزمن لأنور الخطيب -الفصلان السادس والسابع

     

الفصل السادس

صلاح

سلام على العابرين

سألني السائق الهندي عن وجهتي فأخبرته، كانت المسافة إلى المطار طويلة جداً، فملأتها أمي؛ تجرأت مرة وسألتها عن كيفية إتمام زواجها من أبي، طفَتْ ورود المراهقة على ملامح وجهها.

مسحتُ بسرعة دموعاً هربت غزيرة، بادرني السائق بلغةٍ إنجليزية مكسّرة ما معناه: (أمي أيضا ماتت، اصبر يا صديق..).

بدهشة: (كيف استنتجت أن أمي مَن ماتت..؟).

بثقة: (لا يذرف الرجل الدمع إلا على أمه..).

شرح لي كيف أنه لم يحضر مراسم حرق أمه، وتجنّب النظر إليها حتى لا يرى وجهها الزجاجي وعينيها المغمضتين إلى الأبد، بل أنه لم يلمسها حتى لا يتسلل بردها إلى روحه.

التقط مربعاً فضّيا يتدلى من رقبته: (هذه أمي.. كانت جميلة تضج بالحياة، تنقل الإحساس بالفرح إلى ناظرها فيبتسم..).

ابتسمت وترحّمت عليها بصوت مرتفع. قبّل الصورة وأقفل المربع الفضيّ: (لكن أمي بوذية!)..

ترحّمت عليها مرة ثانية، نصحني أن أفعل الأمر ذاته، أوصاني ألا أبكيها: (البكاء يؤذي الراحلين، يربك خطاهم وهم يحلقون نحو النور الأبدي..).

غرق وجهه بالدموع فذكّرته بلطف: (ألا يؤذي البكاء الميت؟)،

رد بصوت متقطع: (نعم يؤذيه، أمي ماتت قبل خمس سنوات، ودموعي تبللها وتنعش روحها، أما البكاء قبل الحرق فيؤذي يا سيدي..لا تبك..).

أحيا السائق رغبتي في ممارسة العمل كسائق تاكسي، لا لكي أنقل الناس إلى المطار في طريقهم لدفن موتاهم أو نقل أخبار الفقد، ولكن لأسمع أصواتا غير صوتي، فسيارات الأجرة صناديق الحياة الحقيقية، ولو لملم السائق الحكايا عن مقاعد سيارته لكتب الحياة كما دون زيادة أو نقصان.

قطع السائق شرودي بسؤال مدهش: (هل تمنيت يوماً أن تعمل سائقاً؟ أنا أفرح كثيرا حين أنقل عروسين ذاهبين في إجازة إلى بلدهما، أو شباباً مسافرين للتعرف على دنيا الله الواسعة، ولكن، أرجوك لا تسئ فهمي، أنا لا اشعر بالسعادة كثيراً وأنا أنقل المعزّين والفاقدين، حتى لو أكرموني بمبلغ إضافي، لأنني أعود إلى البيت فورا ولا أخرج منه حتى اليوم التالي، أسلم روحي للنوم، أستيقظ عند الفجر من ألذ ساعات النوم، وأذهب إلى عملي وأنا أترقب سماع قصةٍ جديدة..)

أعطيت السائق أكثر من المبلغ الذي سجله عدّاد السيارة، رفض الزيادة: (أنت أسأت فهمي، أحيانا أواصل العمل على أمل أن يصعد معي عروسان أو شباب مقبلون على الحياة، إن شئت أن تتصدق على أمك فافعل هذا بعد دفنها، ابتسم حين تتذكرها، ستشعر بك، وتقول “ابني سعيد بعدي”، رافقتك السلامة..).

التفتُّ إليه، كان يتأمل المربع الفضلي المتدلي من رقبتي، قبّله، ومضيت.

وضعت حقيبتي في الماسحة الضوئية، بإشارة بسيطة من العامل الأجنبي، خلعت حذائي وحزامي وساعتي، ووضعت الهاتف النقال وعلاقة المفاتيح والعملة المعدنية والذاكرة الإلكترونية في طبق بلاستيكي، دلفت من الباب الإلكتروني فأصدر رنينا، أومأ الشرطي لي بلا اكتراث بتكرار المحاولة، أصرّ الجهاز على رنينه كأنه يغيظني، طلب الشرطي رؤية إثبات شخصيتي، كنت على وشك أن أصرخ في وجهه متسائلا: “وهل الورق التافه هذا هو الذي يعرّف عني وبي؟”، كانت وثيقة السفر الأقرب إلى يدي، مسحني الشرطي بعينيه بحيادية، التقطت فكرةً مرت في ذهنه؛ بوضعي في الماسحة الضوئية، استبعدها حين لاحظ طولي، طلب مني الدخول إلى غرفةٍ خاصةٍ جداً، ونزع ملابسي كلها والمرور من باب إلكتروني داخلي، استجبت دون خجل، قلت في نفسي: (حين يخلع المرء حذاءه يهون عليه خلع كل شيء.. وأمام الجميع….)

رسم الشرطي عقدة وسط جبينه حين أصدر الجهاز رنيناً مرة ثالثة، ربما شك بأمرين: إما أن الجهاز قد أصيب بخرفٍ مبكّر، أو أنني أخفي شيئاً تحت جلدي.

تساءل بجدية كأنه في ورطة: (ما هذا الرنين الذي يصدر منك يا أستاذ صلاح؟).

أجبت بتلقائية: (ربما تجمّع الحزن حول عظامي فأصابها بالتكلّس، لا أعلم..).

قال متعجّباً: (لم أفهمك، ولا يمكن هذا، ولكن لملم أشياءك واستر نفسك وامض إلى أحزانك..).

وضعت حقيبتي على الميزان قالت الموظفة الفلبينية: (وزن حقيبتك أكثر من الحد المسموح بضعفين..). حملت الحقيبة فتحركت في يدي بسهولة، عقدت حاجبيها وطلبت بأدب جم وضعها مرة ثانية، لم يتغير مؤشر الميزان، فتحت الحقيبة بهدوء أعصاب، لم تر سوى عدد قليل من القمصان والثياب الداخلية والجرابات ووصلات كهربائية لشحن الهاتف والحاسوب وغيرهما. زمّت شفتيها الغليظتين واستدعت المشرف، فقام على الفور بحمل الحقيبة، تأملني وطلب منها إرسال الحقيبة إلى الطائرة، قال لها بصوت خفيض باللغة الإنجليزية: (كان في نيّة هذا الرجل وضع كل ملابسه في الحقيبة، كي يسافر ولا يعود..).

لم يكن أحد في انتظاري خارج الدار، الورود المصطفة أمام مدخل البيت صامتة، والقط الأبيض الحزين متجمد في مكانه، الهواء بارد ويحمل معه رائحة الريحان.

ترددت في الدخول، شعرت بأفعى تدخل من قدمي وتتسلل عبر أعصابي تاركة ركبتيّ مخدرتين، وخفقات قلبي تتسارع كصوت إبرة ماكينة الخياطة، تقدمت نحو غرفة أم الفؤاد بخطوات متلعثمة، وصلت الباب. قالت صبية كمن عثرت على أحد مفقود: (وصل صلاح)، وبكت بصوت عال.

غلّف الصمت الجارات والصبايا، شكلت العتبة الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم، الغربة والوطن، الحضور والغياب، بين رحمي وأناي، اجتزتها متناسياً قضبان الحديد التي كانت تكبل رئتيّ.

أم الفؤاد ممددة تحت غطاء أبيض مكشوفة الوجه، غادرت الثمانين واستعادت صباها، غابت التجاعيد وحلّ لمعانٌ ساحرُ مكانها، رأيت جبيناً ناعماً كأنه قُدّ من الصباح، وعينين مقفلتين كأنهما زهرتا لوز ستتفتحان بعد قليل، اقتربت من الجسد المسجى كتمثال إلهةٍ مصنوعٍ من الفضة، تحسست وجهها بقلب أبٍ يتلمس نعومة وجه ابنته: (ما هذا الجمال يا أم الفؤاد).

صاحت النسوة الجالسات حول الجسد الملائكي، رفعتُ الغطاء، هممت لأقبل يديها كما كنت أفعل فور وصولي من السّفر؛ تورّمٌ أزرق وآثار حقن التغذية الوريدية، حضرتني صورتها حين اصطحبتها إلى المستشفى، وفشلت الممرضة في العثور على شريان لأخذ عيّنة دم، شكت أم الفؤاد للممرضة: (نشفت شراييني يا صبيّة..).

قبّلت كل مكان دخلت فيه إبرة في ظهر كفها، أعدت الغطاء الأبيض حتى رقبتها: (اتركوني مع أمي بعض الوقت..). عجزت عن نطق بحرف واحد، حضَرني صوت مدرس اللغة العربية وهو يشيد بموضوع التعبير الإنشائي الذي كتبته حول الأم: (ستفرح أمك كثيرا ياصلاح حين تقرأ لها ما كتبت).

هربت اللغة خلسة أمام المشهد القدسي، ذاك المقام كان يتطلب لغة الصوفيين والعشاق الإلهيين، لم أفكر كثيرا في إمكانيات اللغة، همست في سرّي، ورأسي إلى جانب رأسها، وكفّي بكفها:

(سلامٌ عليك ياسلامَ روحي/ سامحيني/ لا شيءَ معي لعينيك المغمضَتيْن/ لا طبيبَ لا دواءَ لا كأسَ ماء/ جئتُ من سفري المؤقّت لأشهدَ هذا الرحيل الطويل المعتّق/ ستخرجين في نزهةٍ أخيرةٍ بعد قليلْ/ لديّ سؤالٌ بسيطٌ خفيفٌ غير مؤلم: ألن تعبري بي؟/ افتحي عينيكِ مرّةً واحدةً قبل عبورِك بي/ اعبريني وقولي كلاما أخيرا لأشهدَ أنك قد بدأت بي وانتهيت بي/ حركي شفتيك طفلتي الكبيرةَ/ الفظي اسمي الصغير بقلبك الكبير/ اذكريني مرّةً واحدة كي أرسمَ المستحيلَ/ قد أغافلُ الموتَ/ أسرقُ منك بريقَهُ/ أدجّنه.. أقايضه/ أقلّها أبادلُ روحَك بي/ والله أبادل روحك بي../ بعد قليل سيقطفك العابرون من شجر البقاء/ يزيّنون السّماء لاستقبالك/ ها أنتِ تعبرين رغم استغاثةِ الطّفل بي إلى مطلق العبور/ وكفّايّ اللذان مسّدا أصابعَ رجليك طويلا سيسحلان كالرماد عن بيتك الخشبي المؤقّت/ هل أتبعك؟/ وددّتُ لو يُشترى الغيابُ لاشتريتُ مضجعَك/ لو أجنّ حتى أخطفَك/ لو تصيرين هواءً لأستنشقَك/ لو أعود طفلا فأبكي وأتبعُك/ وددّتُ لو لم تكوني، كي لا أكونَ فأجهلك/ بعد قليل ستعبرين عبورَ آيةٍ في الرياحين/ سيبكي خلفك الأطفال والرضّع/ القطط العصافير والورد والعريشة سور الدار، بئر الحديقة/ ستعبريننا كلّنا/ سنعود كأنّنا لم نعد/ وحدها عكّازة العمر ستبقى واقفة/ كلّما مسّها أحد يرتجف/ وسبحةٌ تحرك حباتِها وحدها/ تكوِّرُ ذكرَها على تكوُّرِها/ تحاور حبّةٌ حبّة/ تشم عطر كفّيْك وتلتحف/ ونافذة قرب سريرك كلّما أُقفلتْ/ تئن أنينَ السجونِ وتنفتح/ وليلٌ فاقد النطق خارج السور/ لا من يقول: “أضيئوا الطريق للعابرين لينكشف/ فمن أضاء دربك حتى تحجبي الأضواء عنا؟/ وماذا سأفعل؟.. صرت بلا مهنة/ لا شيء معي سوى فضاءٍ يضجُ بالذكريات/ سأفرده، ألملم من زواياه الحكاية/ أؤثّثُ أركانه بعينيك/ لا شيء معي لعينيك سوى عيني، قولي لهما: أضيئا الطريق للعابرين، سلامٌ عليك، سلامٌ عليك، سلامٌ على العابرين..)..

فوجئت بالصبية التي قالت (وصل صلاح) تربت على ظهري، قالت حين استويت واقفا: (سلام على العابرين..).

غطيت وجه أم الفؤاد فبدت كسحابة بيضاء، قرّبت وجهي مرة ثانية من وجهها وشممتها حتى آخر حدود رئتي: (وداعاً يا طفلتي، يا حبيبتي..).

…..

صابر

خالف صلاح وصية السائق الهندي وانفجر باكياً خارج غرفة أم الفؤاد، عانقه أخوه: (كلنا سنموت).

طالما نهشت هذه المقولة العمياء عقله في الصغر، وتركت ثقوباً لم تُقفل بعدُ حتى تلك اللحظة. اشتعلت النار في ساقيه وهمّ بالانطلاق في أزقة المخيم لكنه تراجع، اعتبرها علامة سيئة؛ فقدان الاستجابة لنداء عصبه علامة العجز والشيخوخة والرضوخ لفكرة (كلنا سنموت).

سحب دخان سيجارته ونفثها بهدوء قاتل، استهزأ بقصيدته التي همس بها لأمه، سمعتُه يقول: (الشعر مؤامرة حقيقية ومورفين الصراخ، سكنت روحي بعد ذاك المشهد الكاذب، كأنني بعت أم الفؤاد بقصيدة، كما يبيع الشعراء أوطانهم بقصائدهم الرثة التي تفوح خيانة وتدليسا، كما يبيع المتظاهرون قضيتهم حين يعودون بعد هتافاتهم في الأزقة والشوارع إلى البيوت أو البارات أو المقاهي أو لمقابلة عشيقاتهم كما لو أن مطالبهم لُبّيت، وأوطانهم نُظّفت من الفاسدين، أو كما تنسحب فرقة فنون شعبية من المسرح وتتجه إلى المطعم فيتندّر أعضاؤها على حركات بعضهم بعضا وعلى أخطائهم وأغانيهم الساذجة المكرورة، أو كما يترجل سياسي عن منصة منتفخ الصدر مترع الأحساس بأنه حرر عكا، وكل هؤلاء أيتام ولا يشعرون، وحدك تلوك الفقد يا صلاح، وحدك ترى رحيل أم الفؤاد ثقباً أسود يفتت الفرح وزهو الحياة، وحدك تتمزق للقب “لاجئ”، وحدك لا تتأقلم في الجغرافيا مهما كانت وارفة الطلال عليلة الهواء شهية النساء، وحدك تحيا في المؤقت، بيت مؤقت، فرح مؤقت، سيارة مؤقته، أثاث مؤقت، حتى امرأتك كانت مؤقتة وطلقتك حين أشعرتها بالمؤقت..).

واجهته: (لماذا تتناقض مع ذاتك وقد عشقت نساء بعدد أصابع يديك، حتى أنك تطلق على كل اصبع اسم امرأة عشقتها إلا نجاة، كانت خارج الكفين رغم معاشرتك لها، بينما احتفظ شاهدك باسم زُهرة رغم وهمها، ألا تسكّن بعض قلقي وتستقر، اغضب ما شئت، العن من شئت، لكن عليك أن تعترف بالمعضلة والكارثة والهزيمة وهول المؤامرة، ولا يكفي أن تقول لي ” الشاعر لا يُهزم، سلاحه الحرف الحاد والكلمة العاشقة في القصيدة، والجملة الصاعقة المربكة المخلخلة لنص المشهد في الرواية، وفي الواقع أنت تتعاطى المورفين، وتعاطيته قبل قليل وأنت تحضن جسد أم الفؤاد المسجى..).

لم يجبني، اندفع خارج الدار راكضا كذئب مسعور، سمعته يعوي كأن سكاكين تقطع رئتيه، ولم يعد حتى الصباح. استفسرت عن غيابه فقال: (ذهبت إلى ياسمين، ناديتها وكنت عالم بغيابها، وبكيتها كأنها حقيقة رحلت عن قمة الجبل، وحملت معها قصيدة لم أكملها بعد..)، واقترب من أخيه وأعلمه: (لا تقل ثانية كلنا سنموت، سأعيد أم الفؤاد إلى الحاكورة من جديدة، وستبقى نضرة كعرق الميرمية الأخضر).

…………………………………..

  الفصل السابع

الملازم أول عبدالله

(لا تأت على سيرة أم عاشق حتى لو كانت تحت التراب)

 كُلّفتُ بتجنيده، يتكوّن الملف الذي استلمته من ورقة واحدة، طُبعت عليها صورة لرجل يصعب تحديد عمره، توحي ملامحه بالوسامة والخجل، مكتوب فيها: (حضر إلى البلاد منذ خمسة عشر عاما، على الرغم من أنه كاتب وصحفي إلا أنه عمل في البداية مندوب علاقات عامة في شركة للحديد، ثم كاتباً ومترجم إعلانات في مؤسسة هندية، بعدها بستة أشهر عمل مدرسا للغة الفرنسية في مدرسة خاصة، انتقل بعد عام واحد ليعمل في الصحافة في جريدة غير منتشرة، شوهدَ في الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية ومعارض التشكيل وحفلات الغناء والموسيقى وعروض الأزياء ومعارض السيارات ومسابقات الشطرنج، أجرى حوارات مع شخصيات بارزة زائرة على اختلاف تخصصاتها ومناصبها وجنسياتها، ذاع صيته وانتقل إلى صحيفة معروفة فزاد نشاطه وانتشاره خلال عامين فقط، ولفت الانتباه إليه كشاعر وروائي وكاتب مقالات فكرية وأدبية وفنية واقتصادية وسياسية، وتحقيقات ميدانية). وفي نهاية التقرير ملاحظة: (لهذا السبب نريد تجنيده، إنه رجل الأماكن كلها، يتحدث اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة، نريده أن يكتب تقارير عن زوار البلد، وأصدقائه ومعارفه).

لم تحدد التوجيهات آلية التعامل معه في حال موافقته، ولم تشر إلى الخطة ب؛ هل نستخدم لغة التهديد أم نأخذ في الاعتبار طبيعة عمله واشتغاله في الكتابة الأدبية.

اتخذت قرارا شخصيا وبدأت أراقبه؛ صلاح يزور الملاهي الليلية، يتناول قليلاً من الخمر، يراقص نساءً لا يعرفهن، لا يغادر حلبة الرقص إلا مُنهكا، غالبا ما يكون انسحابه بشكل مفاجئ، راقبته في المقهى يقرأ في كتاب صغير، أقفله فجأة وانسحب بسرعة كمن فاته موعد، وفي يوم آخر غادر المطعم قبل الانتهاء من وجبته؛ نظر إلى ساعته وانطلق، تبعته مرة لأعرف الموعد الذي يجعله يضحي بطعامه، تجوّل في معظم شوارع المدينة ليلا لأكثر من نصف ساعة، ثم اتجه إلى شاطئ البحر، أوقف سيارته ومشى حافيا نحو الشاطئ، صعد برج رجال الإنقاذ، أشعل سيجارة ومكث هناك كأنه يحرس البحر، مللت من انتظاره، فغادرت بعد ساعتين.

صلاح شخصية صعبة مزاجية وربما ضجرة، لا يرافقه أحد في مشاويره، لكن يسكنه طفل، تبعته مرة فقادني إلى مدينة ملاهي الأطفال، اتخذ ركنا وبدأ بمراقبة الأطفال.

اتصلت به وطلبت زيارته في الصحيفة، ادعيت امتلاكي موهبة الكتابة ونظم الشعر، رحب بي بحرارة، كانت الساعة السابعة مساء، غيّرتُ بعض ملامحي، حلقت ذقني وارتديت بنطالا وقميصا، وقدمت نفسي باسم عبدالرحمن. تأَمل ملابسي وقال: ( يبدو أنك متمرد، وهذه أولى صفة يجب أن يتحلى بها الكاتب والشاعر..). سألته بخبث: (هل تعني التمرد على السلطة؟).

تأملني بابتسامة حذرة: (ماذا تعمل؟).

لم أتوقع سؤاله، كان أقرب رد هو: (في التجارة).

عاجلني: (لا تبدو عليك هيئة التاجر، أخشى أنك تدعي الصعلكة..).

باستغراب: (وكيف تبدو هيئة التجار؟).

حدثني عن رجل اتصل به هاتفياً وطلب منه نشر قصة قصيرة مع صورته: (كان صريحا إلى درجة أنه لم يكتب سوى تلك القصة، تحدّى أصدقاءه بنشرها مع صورته، أرسل القصة مع سائقه النيبالي، لم تكن صالحة للنشر، طلبت منه إعادة كتابتها، وجهته إلى فقرات عليه إعادة صياغتها، وافق الرجل وأعادها بعد أسبوع، وجدتها قد تحسنت كثيرا، لكنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من التوتر والابتعاد عن المباشرة، شجعته على مواصلة الاشتغال بها لقوة فكرتها، كانت قصة حب مختلفة، ويبدو أنه كتبها عن تجربة ذاتية، قال بلطف وتواضع إنه بذل قصارى جهده، فالتجارة لا تترك له وقتاً كافياً لتحسينها أكثر، وطلب مني تعديلها، ترددت كثيراً، وافقت حين أسرّ لي بأنه لن يكتب غيرها، فضحكنا على الهاتف.

اتصلت به في اليوم الذي نُشرت فيه القصة، فرح كالأطفال، قال إنه سيشتري خمسين نسخة من الصحيفة ويوزعها على أصدقائه ليعلن انتصاره في التحدي، لم أعدّل فيها سوى بعض الكلمات التي أثرت في طبيعة النهاية، فوجئت باتصاله بعد ثلاثة أيام طالبا مقابلتي أمام مبنى الصحيفة، لم يغادر سيارة الرولزرويس، اعتذر عن دخول المبنى، قدّم لي هدية رفضتها على الفور فأوضح: “في عاداتنا الهدية لا تُرفض، إلا إن كنتَ بخيلا..”، لم أسمع صوته منذ تلك القصة، كانت الهدية عبارة عن ساعة ثمينة جداً، هذا ما قال لي نسيبي العالم بأنواع الساعات..).

التاجر في نظره إذن هو من يأتي في سيارة رولزرويس ومعه هدية، وأنا زرته خالي الوفاض.

تلك القصة مدّتني بإمكانية وسهولة تجنيده، بصفته، كما اعتقدت، كاتباً يحب الهدايا، وربما المال، فاجأني سؤاله: (هل أحضرت نماذج من كتاباتك؟).

ادعيت: (نسيتها في مكتبي في الشركة..).

ابتسم: (أنت مُصر إذن، قلت لي أنك تكتب الشعر، لمن تقرأ من الشعراء؟)،

أُسقط في يدي، لم أكن أحب الشعر ولا الشعراء، خلافا لقومنا المهووسين بالشعر، حاولت التخلص من الموقف وجس نبضه: (ما رأيك لو أدعوك لتناول عشاء فاخر في فندق الشيراتون، ونتحدث بهدوء، أراك هنا منشغلا بأوراقك الكثيرة..).

شكرني: (أولا أنا لا أحب تناول طعامي في الأماكن التي يسمونها فاخرة؛ فميزانيتي لا تحتمل هذه العادة الرديئة، ثانيا أحتاج لثلاث أو أربع ساعات من العمل المتواصل هذه الليلة، حبذا لو تحضر معك في المرة القادمة بعض كتاباتك، وسأقدمك للعاملين في القسم الثقافي..).

كأنه أعلمني بانتهاء المقابلة، تجاهلت رغبته وسألته عن الوقت الذي يسمح له بتناول فنجان قهوة فصدمني: (الأصدقاء هم الذين يحتسون القهوة سويا في المقاهي، ونحن لم نصبح اصدقاء بعد..).

كان يحدّثني وهو يركز نظراته على عينيّ، بدأت اشعر بثقل في رأسي، فغادرته كالمنوّم، لم أصافحه، لم نتبادل كلمات الوداع، وسرت كآلة، استعدت يقظتي وقواي بعد دخولي السيارة، أشعلت سيجارة وحالي يتساءل: (كيف سأجند رجلاً كهذا!).

بحثت الأمر مع رئيسي في العمل وحاولت الاعتذار: (صلاح يحتاج رجل أمن ذا خبرة عالية..).

رد بقسوة: (هذا اختبار لك لتواصل عملك في هذا المجال، إن فشلت سننقلك إلى العمل الإداري الروتيني..).

قررت التعامل معه بقسوة إن تطلب الأمر، فهو في النهاية غريب حضر ليكسب رزقه، انتظرت أسبوعين حتى طال شعر ذقني، تابعت خلالها كتاباته، ذُهلت حين نشر مقالا بعد لقائنا بيومين، تحدث فيه عن “الأقنعة التي يرتديها البعض للوصول إلى الناس، والأدهى من ذلك أنهم يدعون كتابة الشعر، بينما لم يقرؤوا قصيدة واحدة، ولا كتاباً واحدا خلال عشر سنوات من حياتهم، ويريدون أن يصادقوا الأدباء والكتاب بشكل عشوائي ومجاني، ويستخدمون أسماء مستعارة أيضا في تعاملاتهم مع الآخرين..”.

توقفت عند كلمات: “عشوائي.. مجاني.. أسماء مستعارة..”، واختتم مقاله: “هذا البعض لا يعرف معاناتنا ككتاب وبشر، نحمل قضايا كبيرة تؤرقنا، وتقض مضجعنا، ولا تمحوها المطاعم الفاخرة ولا الفنادق ذات الخمس نجوم..”، أدركت أن الرجل يقرأ الأصوات.

نشر قصة قصيرة بعد خمسة أيام، عن رجل أمن يتخفى بثياب صعلوك، ويدعي العمل بالتجارة للإيقاع بفنان تشكيلي مهووس برسم العيون التي لا تكف عن مراقبة الآخرين، وهذا الرجل لا يعرف التكوين النفسي والوطني لهذا الفنان، فارتكب أخطاء جسيمة، جعلت رئيسه في العمل يوجه إليه التأنيب، ويهدده بإحالته للعمل في الوظائف المدنية، ولهذا قرر أن يستخدم الخشونة مع الفنان، وأن يزوره في مرسمه فيمزق لوحاته، ويكسر ريشاته، ويدلق ألوانه، ويمسح ذاكرته وتاريخه، ويجبره على الاعتراف بما يخفي، وقال في القصة إن “هذا الرجل لا يصدق أن الفنان يرى ما خلف لوحاته والجدران والثياب، لأن الفنان الحقيقي بصيرة، وهو رائي من الطراز الأول.

كيف حصل صلاح على تلك المعلومات السرية جداً، وهل ذكر ذلك مصادفة؟!

اتصلت به: (معك عبدالرحمن).

أصدر ضحكة خفيفة، تجاوزتها وأبديت إعجابي بالمقال والقصة، وتمنيت لو أستطيع الكتابة بذاك المستوى، وسألته عن تاريخ كتابته للقصة، فقال إنه كتبها قبل عامين.

سألني: (متى سنقرأ كتاباتك وأشعارك؟).

كلفت أحد المعاونين باستدعائه، طرق الباب بهدوء ثم فتحه ببطء وأطل برأسه: (الملازم عبدالله؟). أومأت برأسي، فتقدم مبتسما.

كان يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وقميصا أبيض نظيفاً جدا، ويضع عطرا فاخرا، أشرت له للجلوس، تعمدتُ الانشغال بأوراق مبعثرة، كانت يركز نظراته على مشهد خلفي، قال حين تقابلت عيوننا: (مسجد وكنيسة متجاوران، مشهد يجسد حوار الأديان وثقافة الحوار والتسامح، جميل هذا التجاور، هل تأملت بهذا المشهد يوما ما؟ ربما لم تلاحظه لأنه يقع خلف ظهرك..).

صرّحت بجدية: (هذا ليس موضوعنا ياصلاح..).

أجاب بملل: (أحببت إبداء رأيي بمشهد أعجبني فقط..).

سألت: (أنت صحفي نشط ومخلص وملتزم كما يظهر من انتشارك في جميع صفحات الجريدة، لماذا هذا التنوع والحضور في الأنشطة جميعها؟).

رد لي خشونتي معه بشكل مفاجئ: (هل هذا موضوع استدعائي لدائرة الأمن؟).

قلت: (ليس بشكل مباشر، وإنما يتعلق به بطريقة أو بأخرى..).

كان شديد الثقة بنفسه: (هل تخططون لافتتاح قسم للإعلام؟ يمكنني المساعدة في ذلك من دون مقابل، جانب كبير من العمل في الأمن لم يعد سرياً، وإنما بنشر الوعي بين الناس، نستطيع إصدار نشرة لطيفة ومعرفية تقلل الرهبة وسوء الفهم المترسخ بين العامة، ويمكن توزيعها مجانا في الأسواق والوزارات والدوائر والسفارات ومع الصحف أيضا، هذا عمل مهم وجديد يروق لي..).

صوبت نحوه نظرات حاسمة: (بصراحة ياصلاح، نريد الاستفادة من نشاطك وانتشارك الثقافي والمكاني والإعلامي، ما رأيك؟).

فاجأني: (أنا أؤيد مشاركة المعرفة وانتقالها بين الناس، هل يمكن أن تكون أكثر تحديداً ودقيقاً في شكل ونوعية هذه الاستفادة؟ رغم أن معظم ما أكتبه أنشره في الصحيفة..).

ظننت نفسي لمّاحا وذكيا: (نحن نريد هذا القليل الذي لا تنشره..).

أجاب: (هذا القليل لي، لا أحد يشاركني فيه سوى زوجتي، وأحيانا أطفالي وبعض معارفي، إنه مثل الصندوق الأسود المفتوح، حتى أنت تمتلك صندوقا أسود لا تفضل أن يشاركك فيه أحد..).

جازفت: (يمكنك اعتباري من معارفك).

رد بوضوح: (هذا ليس سهلا، الوعي بصورتكم لم ينتشر بعد..).

سكت للحظات وقال: (هل قرأت قصتي التي نشرتها قبل عشرة أيام تقريباً؟).

ترددت في البداية ثم اعترفت، قال: (سأكون مباشرا جداً معك، هل ستقوم باقتحام بيتي وحرق كتبي أو تمزيقها؟).

أخبرته أن تللك ليست طريقتنا وأنه حر في قبول العرض أو رفضه. نهض وتقدم من النافذة التي تطل على الجامع والكنيسة: (أنا أرفض رفضا قاطعا..).

وقفت إلى جانبه كالجلاد الذي يطلب من الضحية مساعدته: (أنا أمام تحدٍ ياصلاح، وموافقتك مهمة جدا بالنسبة لمسيرتي المهنية، وفشلي يعني إبعادي عن هذا السلك الذي حلمت بالانضمام إليه مذ كنت طفلا).

عاد وجلس ووضع ساقا على ساق: (حسناً، أستطيع التعاون معك للوصول إلى ما تصبو إليه..).

كان يحملق بي بعينين ساحرتين وتركيز عال، اعترتني الحالة التي تملكتني حين زرته في الجريدة، حشدت كل تركيزي على وجهه، قال: (يمكنني كتابة تقارير وقصص عن أسماء وهمية يعملون في مختلف المؤسسات، تشم فيها رائحة خطر ما، لكنك لم تتوصل إلى تحديده، ولا زلت تبحث في أمر هؤلاء الأفراد، وبما أنك لم تقدم تقريرا واحدا بشأن تجنيد أي شخص منذ تسلمك لمهامك، فإنك ستدهشهم باللغة التي ستكتب بها التقارير، وبالقصص المثيرة، وبالمتابعات الدقيقة، وسيسعد مدير إدارتك فيمنحك ترقية، وربما تصبح رئيس قسم، فأنا أكتب قصصا بوليسية جديرة بأن تتحول إلى أفلام سينمائية..).

استهوتني الفكرة؛ عمليات متابعة لا تؤدي إلى شيء، كثيرة هي العمليات التي يرهقون أنفسهم بها بلا طائل، تخيلت نفسي رئيس قسم، أجلس خلف مكتب فخم.

وبعد أن لمح النشوة في عيني: (وبعد أن تصبح رئيس قسم، تتابع كتابة التقارير، وسترفعها هذه المرة إلى جهات أعلى، ستتحدث عن الأشخاص أنفسهم، وتضيف معلومات عنهم، ولتفادي الغرق في الوهم، يمكنك تكليف الذين يعملون تحت إمرتك بمراقبة هؤلاء الأشخاص، ستزودهم بمواصفات دقيقة لأشخاص أعرفهم من زوار الملاهي الليلية والمطاعم البسيطة، وربما بأسماء نساء يترددن على تلك الأماكن، وتطلب من رجالك عدم الاحتكاك بهم، فقط مراقبتهم، وتستطيع أن تغير الرقابة، فيتابع الشخص المقصود أكثر من رجل أمن، ولكن لمرة واحدة فقط، وإذا ما ألحت الإدارة على استدعاء أحدهم تفيدها بأنه مسافر أو غادر البلاد نهائيا أو مريض في المستشفى، وربما تطلب متابعته خارج البلاد، وستحصل على ترقيات إضافية، وربما تصبح مدير إدارة، وكلما حصلت على ترقية تختلف مستويات الناس المستهدفين، وتصبح مسؤولا ربما عن متابعة موظفي السفارات الأجنبية، هنا يمكنني العمل معك بشكل واقعي، الخطر يأتي من هؤلاء، معظمهم رجال أمن، يتجسسون علينا..).

كان صلاح يتحدث وصورة رجل الأمن الذي تقمصته صغيراً تكبر وتتضخم، سمعته ينهي الحديث: (اتفقنا؟)، وينهض ثم يتجه نحو الباب، أفقت من أحلام اليقظة في اللحظة التي همّ فيها بالخروج. صرخت به: (إلى أين يا صلاح؟).

عاد بخطى بطيئة: (قلت لك اتفقنا، فهززت رأسك، هل تراجعت؟).

بحدة: (أنت إنسان مراوغ وخبيث، إن لم تتعاون معي سأعيدك إلى أمك..).

اتسعت عيناه وانتفخت شرايينه: (إذا جئت على ذكرِ أمي مرة ثانية ستقوم القيامة..).

تماديت في استفزازه: (أو إن شئت أحضر أمك لك.. حتى لو كانت تحت التراب).

حملق بي بعينين محمرتين، بدأت ملامحه تتغير لتصبح أقرب إلى وجه ذئب، شعرت بخلاياه تطلق شوكا نحو جسدي كله، بدأ الخدر يسري في دماغي وأطرافي، تخشّب لساني حتى فقدت النطق، نهض غاضباً، أمسك قلما وورقة وكتب شيئا ثم غادر المكتب مسرعاً. لعنته حين تحررت من لعنته، وقرأت ما كتبه: (أحضِر بعض نتاجاتك الشعرية في المرة القادمة..).

ناقشت موضوع صلاح مع رؤسائي في العمل، أطلعتهم على السحر الذي مارسه عليّ، مقترحه في الحصول على الترقيات، وشروطه للتعامل معنا، قررنا استدعاءه والتحقيق معه مجدداً.

أعلمتني نجاة أن عقده قد انتهى مع الصحيفة، ويستعد للمغادرة.

كنت أقلّب في الصحف العربية والأجنبية التي تصلني يوميا قبل الظهيرة، لفت انتباهي عنوان قصة قصيرة بعنوان “الصحفي العميل!”، علامة التعجب أثارت اهتمامي، كان فيها دهشة تجعل ما قبلها مستنكرا. تتحدث القصة عن محاولة تجنيد صحفي من قبل مخابرات دولة عربية، جاء فيها: “لم أكره رجل الأمن ذاك، أحسست بتعاطفه معي، ارتباكه أوصل لي ذلك الإحساس، حين توغلت في عينيه وقرأت ما في بصيرته وجدته شابا طموحا طيباً، كان من السهولة عليّ إيهامه، لكن تأثيري كان قصيرا، وبدأت المواجهة الشرسة، فقررت إنهاء حياته، لأن حياته ستنتهي بشكل أو بآخر بسبب فشله، ولرؤيتي الموت اللمعان الذي كان يصدر من كفيه اللتين بدتا مصنوعتين من شمع..”.

لم يذكر الكاتب الطريقة التي سيقتل بها رجل الأمن، ولا الوقت، وهل عدم كراهيته له جعلته يتراجع عن نواياه الإجرامية أم لا. دقّقت بتاريخ نشر القصة، كانت قبل ثلاثة أيام، فكرت باستدعاء صلاح لولا قراءتي اسما آخر ذيّل القصة؛ (صابر عبدالنبي).

ألقيت الصحيفة جانباً وتساءلت: “لماذا ذكر قصة التاجر صاحب الرولز رويس؟!

صابر

أحاطه القلق من كل جانب في الليلة التي سبقت استجابته لزيارة الملازم عبدالله، لم تكن تلك المرة الأولى التي يُستدعى فيها من قِبل رجل أمن، استُدعي قبل عقد ونصف لسبب أضحكه بقدر ما أحزنه، بتهمة علاقة ربطته بأميرة من الصف الثاني كانت تكتب القصة القصيرة، أُعجبت بأشعاره عن بعد، وبهيئته الفوضوية وبنطلون الجينز وشعره الطويل وجرأته في التحدث إليها عندما تقابلا في استراحة ندوة تتحدث عن العنوسة، لم يكن قد شاهدها من قبل، قدّمت نفسها وعرفته باسمها (الأميرة فتون.. كاتبة قصة قصيرة..).

رحب بها ببرود: (أهلا فتون، تعجبني قصصك باستثناء المواعظ المنثوره في النصوص..)، ثم استأذنها ساعة أطلّ صديق لم يره منذ سنوات.

تعمّدت اعتراض طريقه مع انتهاء الندوة بابتسامة ملونة بالإغراء: (أهكذا تتعامل مع أميرة معجبة بأشعارك أستاذ صلاح؟).

أجابها: (أعتذر إن كنت قد ظهرت قليل الأدب، فأنا لا أجيد فن أتيكيت الأميرات، ثم أنك تحضرين الندوة بصفتك كاتبة، وتوقعين اسمك في الصحف بلا ألقاب..).

نشأت علاقة مجنونة بينهما لم تعرف حدوداً، والتقيا في المطاعم والفنادق وعلى شاطئ البحر متناسين واقعهما، تناسى هو زوجته، وغضت هي الطرف عن الحراسة السرية التي كانت تتبعها كظلها.

أمره رجل الأمن: (لدينا تعليمات بأن تكف عن الخروج مع سمو الأميرة، أنت تعلم خطورة ما تقومان به، وحتى أكون واقعياً، هي لن تتأذى، ولكنك ستتحمل وزر اختراقك للمقامات..).

سألته ببرود: (هل تعني التوقف عن الخروج العلني ولا بأس من المقابلات السرية أم أنك تطلق رصاصة الرحمة على قصة عاشقين؟).

قال: (أنصحك بنسيانها أستاذ صلاح..).

حذرت صلاح منذ لقائه الأول بفتون وقلت: (حياتك تساوي رصاصة واحدة ثمنها أقل من دولار، أو حادث سيارة يُسجّل ضد مجهول، أو تلفيق تهمة لك، سياسية أو مخدرات أو أمنية، وتودع السجن فلا تخرج منه أبدا، لأنك ستُصفّى داخله، هل فقدت عقلك أيها المجنون، أنت تهمل زوجتك وأطفالك وتحكم عليهم بالتشرد؟).

قال بلغة ثملة: (أحبها، بل أعشقها، أنت لم تجرّب عشق الأميرات أيها الصابر الحكيم، كل شيء مختلف معهن، إنها العاطفة الأميرية التي تحمل شقاوة نساء الليل، لكنني سأحرص على التخفّي حين ألقاها).

سألته: (كيف؟).

بتعالٍ: (بثياب أمير، أنسيت أن الجد الرابع لأمي كان أميرا!).

قلت: (هذا حديث أم الفؤاد التي كانت تتباهى بنسبها..).

صححت له معلومته: (بل حديث أبي القاسم، زوجها، أبيك أيها المتواضع..).

انتهت العلاقة فور معرفة صلاح بسفرها إلى فرنسا وحيدة، ومقابلتها هناك شابا من غجر فرنسا، ولم يجد نفعا وصفها له بالصديق الغجري.

مبعث قلق صلاح سببه اقترابه من الستين. فكّر بالطريقة التالية: هم لا يريدون تجنيدي لأعمل داخل البلاد وإنما خارجها، مرجّحين لهفتي للحصول على راتب تقاعدي لم أكن في حاجة إليه، فأبنائي وبناتي تزوجوا ويعيشون بسعادة مع أزواجهم وأزواجهن، وطليقتي تعيش مع والدتها وافتتحت محلا لبيع الزهور، وأنا يكفيني نصيب الطير…

ذهب صلاح لمقابلة الملازم عبدالله بسيارة ليموزين استأجرها، وببدلة أنيقة وربطة عنق فخمة، ورش عطرا مثيرا أضفى عليه جاذبية حين تمازج مع عطره الأصلي.

أول تعليق من الملازم: (هل لديك موعد غرامي بعد الجلسة أم أنك ذاهب لتتزوج..).

صلاح بلا مبالاة: (لا هذه ولا تلك..).

وإذ طلب منه التعامل معه أدهش الملازم بإجابته: (هل تستطيع دفع مكافأتي، أنا أتقاضى خمسة آلاف دولار مقابل التقرير الواحد، فإن كنت تريد عشرة تقارير عليك دفع خمسين ألف دولار..).

خرج الملازم من مكتبه لربع ساعة وعاد: (هل أنت جاد فيما تقول؟ حسابك البنكي واضح لدينا، ولا أعتقد أنك تتعامل مع جهات استخبارية أخرى..).

صلاح: (من يتعامل مع جهة يستطيع التعامل مع ثلاث جهات، وأنا أعطيتك سعر الجهات كلها، حتى أكون مخلصا لكم، وكما ترى، لست في حاجة إلى نقود، وإنما هي هواية تعينني مخرجاتها على كتابة الروايات، سيّما أنني سأتجسس على هؤلاء الذين يسرقون خيرات بلادنا ويقتلوننا كل يوم، وينتشرون في العالم كالنار في الهشيم، على شكل فنانين ورجال أعمال وإعلاميين..).

غضب الملازم: (أنت تعلم ماذا نريد وتتغابى، نريدك أيها الوسيم أن تكتب عن أقرب المقربين لك، حتى عن أمك في قبرها..).

نصحت صلاح بالهدوء وضبط النفس والتنفس بعمق والنظر خارج النافذة والتظاهر بأنه لم يسمع شيئا، أو أن ينهض فيركض كعادته ليتجنب تجمع الدم في تجاويف دماغه، أو أن يبادر بالموافقة ولا يلتزم، فهو مغادر بعد شهور قليلة جدا، لم يأخذ بنصيحتي، جحظ بالملازم بشكل متواصل، فكشّر به (ما أقبح هذا الوجه، رأس ذئب على بدلة أنيقة)، وبدأت عيناه بالذبول حتى سقط رأسه على صدره.

قلت: (أريدك الذهاب إلى طبيب نفسي كي تتخلص من الذئب في داخلك)،

صلاح: (سأفعل حين يختفي الذئاب..).

اترك تعليقاً