لو كان مصطفى حيا لشاركني متعة الشتاء في المدرسة التي انتقلت إليها في المدينة برعاية أخي الفؤاد، لانتقد وقوفي الدائم وسط الباب المُفضِي إلى ساحة المدرسة، ولسألني: (كيف تتحمل اصطدام الأولاد والبنات الخارجين إلى الساحة والداخلين إليها..؟). ولقال لي: (أيها الذئب، مضى على التحاقك بالمدرسة أربعة شهور ولم تكوّن صديقا واحدا بعد..)، مصطفى لم يعد حياً، مات أصدقائي جميعا.
طلبت مني تلميذة تكبرني بعامين إفساح الطريق لتمُرّ كيلا تحتك بي، ففعلتُ بهدوء رغم رغبتي..، استدارتْ: (طلبت منك أكثرة من مرة ولم تدعني أمُر..). اكتفيت بالنظر إلى وردة صغيرة حمراء كانت تثبتها على شعرها، فأضافت: (ماذا يعجبك في الوقوف هنا متحملاً ارتطام الشباب والبنات؟).
أجبتها وعيناي على ماء السماء: (لم يرتطم بي أحد..).
تأملتني: (ماذا تراقب؟ ومَن؟).
بجرأة: (أرى مشهداً ملعوناً وحنوناً).
ارتعشَت وطلبت مواصلة حديثي فاسترسلت: (انظري؛ هناك مساحات ترابية تدغدغها أنامل المطر، وتعانقها بلهفة عاشق يتوحد بمعشوقته، وهناك مساحات مغطاة بالإسفلت، تحاول حبات المطر اختراقها لتصل التراب، الأنامل الأولى دافئة، والثانية حادة، التراب تراب الله، والإسمنت حاجز البشر، الماء يبحث عمن يحتويه، والإسمنت يصد كل شيء بلؤم وقساوة، حتى ماء السماء..).
فتحتْ عينيها بدهشة: (كم تبلغ من العمر؟).
تفلسفت: (بعضنا مصاب بسرعة في النمو، وأنا منهم..).
باستغراب: (مَن أنتم؟ يبدو أنك لست من هنا، ما جنسيتك؟ وأين تسكن؟ وهل أنت شاعر؟ هل أنت صابر عبدالنبي؟)، هززت رأسي وأنا أراقب فتاة صغيرة كانت تسير بهدوء تحت المطر، وجدتني أمام وجه مورّد الخدين، تعلوهما حبات ندى بإغواء بريء، تسمّرتُ، لم تطلب مني إفساح الطريق، لم تتذمر، وأنا لم أحرك ساكناً، تولّدت لدي رغبة لملامسة ماء وجهها، رفَعَتْ كفها ولوحت ببطء أمام عينيّ، ظنّتني ضريراً، رفعتُ يدي بهدوء لأمسك يدها وأقبلها، تراجَعَتْ، سألتها بصوت مرتجف: (ما اسمك؟)، ردت: (زُهرة). خلعت معطفي المهترئ ومددته نحوها، ابتسمت وتجاوزتني كنسمة، التفَتَتْ كمهرة شابة ثم أسرعت، تبعتُها دون تفكير بالعواقب حتى وَصَلَتْ قاعة الدرس واستقرت على مقعدها، أيقظني من ذهولي صوت المعلمة الهادئ والناعم كنسيم: (هل أنت معنا في الصف؟)، هززت رأسي وعدت أدراجي مسرعاً إلى الساحة، ركضت بكل ما تمتلك ساقاي من عزم حول محيطها حتى فقدت السيطرة على شهيقي وزفيري.
عدت إلى قاعة الدرس، سألني المدرس: (أين كنت يا بني؟ تبدو مرهقا..).
أجبته والماء يتقاطر من شعري الطويل وملابسي: (كنت أتوضّأ..).
أطلق أحد التلاميذ نكتة لم يضحك لها الآخرون: (وهل صلّيت أم ستؤم بنا؟..).
لفت المدرس نظره: (يبدو أنك لم تفهم المعنى..)
كانت أمي تفطمنا عن البكاء على صدرها حين نصل العاشرة من أعمارنا، لم تكن تضع رائحة مُرّة على قماش صدرها، فنتقبل الأمر ونعتاد منفى الحليب، كانت تعوضنا بإسناد رؤوسنا على ساقها في أوقات كانت تعرفها ونجهلها، تلف ذراعها حول طالب اللجوء إلى رحمها وتقول: (نم هنا ياأيها الشقي)، وبعد العودة من شروده، يترك بقعة دمع على فستانها، فتتركها حتى تجف تلقائياً، ولا تسأل سبب تدفق الشجن السائل.
عدت مع انتهاء اليوم الدراسي سيراً استجابة للتقشف المستدام، مشيت أكثر من خمسة كيلو مترات صعودا، مستمتعا بالرذاذ وهو يغوص في شعري ويلثم وجهي، يوقظني من شرودي في وجه الفتاة المشبع بالحنان.
عانقتني أم الفؤاد أمام البوابة العتيقة: (هل سقطت في بركة ماء أيها المسكين؟).
جمَعَت أطباق العشاء الفارغة وغسلتها، وانتقلت للبدء في طي الملابس الجافة، قالت بينما كنت أستظل بجناحها كعصفور: (قل لي ماذا حدث معك اليوم؟).
تردّدت، كانت تعامل كل واحد من أبنائها كأنه وحيدها، جَعَلتْ رأسي فوق ساقها الأيمن، وغاصت أصابعها في شعري الكثيف، فانساب الكلام: (قابلت اليوم فتاة المطر، وقفت أمامي مبتلة من رأسها حتى أخمص قدميها، لم أحدثها بشيء، ولم تطلب مني إفساح الطريق لها للمرور، أحسست أنها وُلِدَتْ في تلك اللحظة من رحم غيمة، لكنني تراجعتُ أمام دهشة عينيها الدافئتين الحنونتين اللتين تشبهان عينيك، تجاوزتني فتبعتها حتى فصلها الدراسي وعدت، منذ تلك اللحظة ياأمي، لم أسمع كلمة واحدة من أي مدرس مرّ بصفنا، ولا أعلم إن كانت لدي واجبات مدرسية، أخاف من العقاب أمام التلاميذ، ولكن لا يهم، ما زلت أرى تلك الفتاة أمامي، وجهها يشبه وجهك كثيراً، رائحتها تشبه رائحتك، حين مرّت بي أحسست أنكِ معنا في المدرسة، قطعت المسافة من المدينة إلى المخيم ولم أشعر، كلا يا أمي، لم أسقط ببركة ماء..).
شاكسته باسمة: (بل سقطتَ في بئر عميق أيها المسكين، عد إلى المدرسة غدا، واحرص على عدم ظهور وجه الفتاة في وجهك، حتى لا يضيع المال الذي يرسله أخوك الفؤاد من غربته..).
التحقت بالمرحلة الثانوية برعاية “الفؤاد”. سألتُ بهدوء: (كيف يبدو أخي الفؤاد، هل هو قصير وسمين، أم مثلي طويلٌ ونحيف؟).
فرحت لسيرة الفؤاد: (مثلك، طويل ونحيف، ألا تذكره؟).
بخجل وقهر: (رأيت صِوَرَهُ، ولكنني لا اذكره تماماً..). طلبت أمي مني الذهاب إلى النوم، وأكدت بأنني سأرى الفؤاد قريباً، و”قريباً” تلك امتدت لثلاث سنوات.
قبل سفره الطويل كان يزور البيت لثلاثة أيام عند نهاية كل شهر ثم يختفي، يقضيها الأب والأم مع “فؤادهم”، لم يدُر أي حديث بينه وبيني، كنتُ ألمحه أحيانا داخلاً أو خارجاً أو جالساً يتسامر أو يهمس مع أصدقائه.
استرقت السمع من وراء الباب، التقطت كلمات غريبة عن قاموسي: زمرة، مجموعة، تبرعات، اجتماعات، تدريبات، عمليات، وغيرها، لم يكن من حقي الاستفسار، لم تعن الكلمات شيئا لي.
شهد البيت حلقة جنائزية؛ عينا أم الفؤاد تحولتا إلى بحيرتين من دموع وحزن، لم يتوقف أبو القاسم عن الدوران حول نفسه، ملامح وجوه أخواتي كانت ترجف، كنت قد تجاوزت العاشرة من عمري، أدركت أن البيت سيفرغ من أحد أركانه، ذاك كان يعني فراغ السرير الوحيد في البيت، سراويل جديدة وقمصاناً فضفاضة، عدة حلاقة قديمة، كتبا متنوعة، ورحلة حزن مضافة لأم الفؤاد؛ كانت نظراتها للفؤاد تشبة النظرة الأخيرة، انتزع نفسه من حضنها بمساعدة أبو القاسم فبكت بحرقة.
اختفت السيارة بمن فيها، شهقت أم الفؤاد واحمرت عينا أبي القاسم، بعد دقائق من الصمت سألت الأم زوجها: (كم يوما يستغرق وصول البرقية..؟).
لم يجب أبو القاسم، غادر البيت بعد تأمل متخم بالغصات.
بعد شهور قليلة، وصلت رسالة من الفؤاد، هاج البيت وماج فرحا قبل فتحها، طلب الفؤاد من أبي في رسالته التوقف عن العمل كحارس للبستان المجاور.
بعد عامين، ذهلت حين علمت أن الفؤاد متزوج، ورزق بمولود، لا أعلم كيف ومتى تزوج الأخ الأكبر، تساءلت في غمرة الدهشة إن كنت مغيّبا إلى تلك الدرجة، وسارحا في ملكوت الأسئلة!
استأذنت ناظر المدرسة في تأجيل دفع القسط ليجنبني الإحراج أمام زملائي، كان من عاداته السيئة، أن يزور الصفوف ويتلو أسماء المتخلفين عن السداد، وفعلها في اليوم ذاته، ارتعش قلبي كعصفور، نسي الناظر زيارتي، انكمش الكون في داخلي في اللحظة التي نطق فيها اسمي، فانفجرت صارخا وطالبته بالخروج من الفصل، انتابتني حالة هستيرية شديدة وأنا أكرر بصوت عال وبعض دموع: (أخرج، أخرج.. اطلع).
استوقفني مدرس اللغة العربية العجوز حين قرع الجرس إيذانا بانتهاء الحصة: (انتظر يا صلاح..). قبل تقديم اعتذاري وضع كفه على كتفي: (كيف فعلت هذا يا بني؟).
سردت القصة بصوت متقطع، وبحروف تخرج من حلق يملؤه الشوك، نظر في وجهي: (أتفهَّم قصتك يا بني، لكنِّي لا أتخيل أن تصرخ في وجه ناظر المدرسة وتطلب منه الخروج! لقد أدهشتني..).
التقط المدرس الجملة الأخيرة: (من أنتم؟). قيدت غيمة سوداء رئتي وكدت أختنق، مسح المدرس على شعري ونصحني بصوت حنون ألا أبالغ في مشاعري، وامتدح مثابرتي واثنى على لغتي وأسلوبي في كتابة المواضيع الإنشائية، بل تنبأ لي أن أكون كاتبا، نظرت عميقا في وجه المدرس، رسمت ابتسامة خفيفة جداً على شفتي المرتجفتين، بادلني المدرس بمثلها، ثم غادرت، بحثت عن زُهرة دون جدوى، كنت سأقول لها “أحبك”.
قلت لأبي: (نسينا الفؤاد، شعرت اليوم أني ضائع ولص أمام ناظر المدرسة..). لم يغضب أبو القاسم، وعدني بزيارة الناظر.
بعد سبع سنوات، أنزل الفؤاد حقائب كثيرة من صندوق السيارة، تساءلت عن محتوياتها، لم أتخيل أنها كانت مليئة بالثياب والعطور والأدوات الشخصية الخاصة والهدايا. صافح الفؤاد الجميع وعانقهم ولم يُقبل عليّ، جلس على كرسي صغير يتفحص وجوه أفراد الأسرة الذين يطعمهم ويسقيهم عن بعد، التقت نظراتنا، كانت لدي رغبة قوية بالاندفاع نحوه كبقية أخوتي وأخواتي. اكتفى بأن أكد لنفسه: (أنت صلاح ! ألا تريد أن تسلم على أخيك؟)
ركضت خارج البيت مُسرعاً مثقلا بمشاعر متناقضة، مشيت طويلا بين أشجار الزيتون، جلست كصنمٍ على حافة الصخرة الكبيرة المطلة على المدينة القريبة؛ كيف اجتمعت هذه الأسرة الكبيرة في هذا البيت الصغير؟ كيف جئنا إلى هذا الوجود في غياب خصوصية أبي القاسم وأم الفؤاد؟ هل سيأتي يوم تفرغ فيه الدار من أهلها؟ الفؤاد سافر لسنوات اختلطت بعدها ملامحي عليه، وسيتلوه ربما عبد القادر، ثم فهمي، ثم أنا، تبتلعنا البلاد وتهرسنا الأماكن في بطونها، ونكوّن عائلات في المنفى الآخر، وننجب منفيين وغرباء، لا يعرف الولد أبناء أخيه ولا أعمامه، ويتواصلون بالصور، يقوم أحدنا بالإشارة إلى وجه أحدهم: (هذا أخي، وهذا ابن عمكم الفؤاد، وتلك ابنة عمكم عبد القادر، وهذه المولودة الجديدة لعمكم فهمي..)، ويبقى أبو القاسم وزوجته وحيدان ينتظران رسائل وزيارات الأخوة والأخوات وأبناءهم، وقد يأتي زمن يضيق البيت بجدرانه بعد رحيل أعمدته، ويعود الفراغ سيداً، والأطلال شاخصة تنضح ذكريات لا أحد يرويها، وقد يأتي ساكنون جدد يضيفون إلى الذكريات أخرى، أو يمسحون القديمة بالجديدة، حتى تصبح الحروف تنهدات تتكرر: (هل تذكرون حين كنا؟ وهل تعلمون أننا حين كنتم؟)، ونصاب جميعاً بسرطان المنفى والغياب…
ترددت في الدخول، خرج أحدهم من بوابة البيت المعدنية وتقدّم نحوي بهدوء، عرفته قبل وصوله من رائحة عطره المميزة، احتضنني بقوة وحنان شديدين: (لمحت عودتك رغم الظلام، أنت أكثر إنسان اشتقت إليه في غربتي يا صلاح، حركت رسائلك دموعي أيها الشاب الشقي).
مشينا بعيداً عن البيت في شبه العتمة، اعتذر لتأخره في إرسال النقود، قال: (لم أكن أمتلك المال الكافي..). تساءل عن سر الأسئلة التي تمتلئ بها رسائلي، واللغة الجميلة التي أكتب بها: (كنت أقرأ رسائلك كأنني أقرأ لكاتب كبير..). استدرك: (حين علمت بتفاصيل ما حدث مع الناظر، سكنت حلقي غصةً، حرقت ثلاثة سجائر متتاليات، أنت أوصلْتَ لي معنى الغربة الحقيقي، وكبرياء الغريب الموجوع، واعتداده بنفسه، صراخك في وجه الناظر رفضٌ لكل هذه الحالة التي نعيشها، ولكن لا تيأس، ولا تتوقف عند مرحلة التفكير والتساؤلات، حاول أن تعمل شيئاً، أن تترجم شوقك وغضبك وحنانك لتلك البلاد البعيدة، كنت أعتقد أنِّي الوحيد المريض بها بعد أبي القاسم..).
دخلنا من البوابة وكل واحد يحيط خصر الآخر بذراعه.
دعاني الفؤاد لمرافقته إلى المدينة، كانت أول مرة أدلف فيها إلى محل عصير، وأول مرة يتقدم مني عامل المحل ليسألني عن نوع العصير المفضل لدي، شعرت بالارتباك والخجل من أن يخدمني شاب مثلي. وبعد وصول العصير سألني الفؤاد: (هل تستطيع العمل في محل عصير أو في مطعم أو مقهى؟). لم أجبه، فواصل: (قد تضطر يوما ما للعمل في محل بيع عصير، فكن إنسانياً مع هؤلاء العمال).
تمنّيت مقابلة الإنسان الذي كتبت رسائلي له، وضمّنتها أفكاري وخيالاتي المؤلمة والمجنونة، أن يبقى المرسَل إليه بلا ملامح تحدده، وبلا رائحة تجذبني إليه، لا يبتسم ولا يتحدث ولا يناقش، أن يكون بلا عاطفة، وألا يرد على رسائلي كما فعل الفؤاد، تمنيت أن يتجاهل رسائلي حتى أواصل الكتابة. هل سأكتب للفؤاد من جديد بعد أن عرفته وسمعت صوته، ورافقته إلى محل عصير، وعلمني قيادة السيارة؟ هل لو كتبت له سأفعل ذلك بكل حرية؟ عدم إلمامي بتفاصيله أو ملامحه الحقيقية كان يشجعني على البوح كأنني أكتب لنفسي، أو أخاطب الفضاء أو البحر أو الجبل أو السراب، أو على أقل تقدير لشخص لا أعرفه، يحمل كل تلك المواصفات العملاقة، فيغدو أكبر من أخ وأعظم من صديق وأكثر دفئا من أب.
غضبتُ من الفؤاد مرة ثانية، اعتقدت أنه سيدرك حاجتي لأفق مفتوح يمكّنني من الاستمرار في البوح، لكنه هبط بي إلى السيارة ومحلات العصير والسوق، وكل هذه الأسماء والأماكن ستكون محظورة عليّ بعد سفره، وتذكّرني به بطريقة أو بأخرى.
(قد ترغب في شراء هدية لأمك أو لأبيك)، قالها الفؤاد وهو يدس مبلغا ثانيا من المال قبل سفري إلى مصر لتقديم امتحانات الثانوية العامة، أعطاني المبلغ الأول أثناء عودتنا إلى البيت ليلا.
كان المطار مربكا لأعصابي وروحي، بمساحاته الشاسعة، بالمسافرين والمودّعين ورجال الأمن والجمارك وموظفي شركات الطيران، وطقوس دخول الطائرة ورؤية المضيفات الجميلات اللاتي وقعت في حبهن جميعاً. أربكتني المضيفة وهي تطلب مني الاختيار بين صنفي طعام، كنت سأطلب ساندويش فلافل وأريح نفسي! أكثر الأماكن إحراجا كان مرحاض الطائرة؛ ضيقٌ جداً أسمع منه هدير محركات الطائرة، صدمتني فكرة انسلاخ المرحاض عن الطائرة وأنا في داخله، فغادرته سريعا.
لم أكن قد دخلت محل هدايا في حياتي، عدت بعد أسبوعين محملا بهديتين، الأولى شال صوف لأمي، والثاني لفحة قطنية بيضاء للفؤاد، لم أشتر هدية لأبي.
كنت خلال ساعات عودتي أخطط كيف سألقي الشال على كتف أمي، والطريقة التي سأقدّم فيها “اللفحة” للفؤاد، وهل يجوز لي إلقاء اللفحة حول رقبته، ذاك الأخ الأكبر الرسمي، أم أنه من الواجب تقديمها في مغلفها كما هي؟! حزنتُ؛ فلم يكن بمقدوري حتى تلك اللحظة تجميع ملامح الفؤاد بسهولة، لم أتأمله ملياً وقت وصوله، وساعة دعاني لكوب عصير، وحين سرنا في الظلام، لا أحد يتأمل أحداً في الظلام! قررت دعوته لكأس عصير بما تبقى من أمواله، سأحدثه مركّزاً على عينيه وضحكته وصوته وفمه وسيجارته وحركات يديه، فرِحتُ للتهيؤات وتصميمي على إيداع الفؤاد ذاكرتي، ولعنت الكتابة والرسائل والأسئلة.
لم تكن السيارة أمام البيت، لم أعثر على حقيبته الكبيرة في غرفته، صدمتني العلاّقات العارية الصماء في الخزانة، كل ما تركه زجاجة عطر ممتلئة حتى نصفها، فتشت عنه في زوايا البيت كالمجنون، سمعت صوته يتردد في الغرف. لامتني أمي بغصة: (انتظرك الفؤاد كثيراً وغادر قبل ثلاث ساعات، قال إن الطريق طويلة، وعليه اجتياز أطول مسافة ممكنة في وضح النهار).
تمنيت لو كانت لي أجنحة نسر لأطير إليه، وألقي اللفحة حول رقبته وأعانقه وأعود، جلست على السرير الذي كان ينام عليه الفؤاد، وبدأت أكتب له رسالة، كأنني لم أقابله أبدا.
صابر
حدثني بصوت مرتعش عن زُهرة، قال إنها تعطل مذاكرته لدروسه، تنبت من بين سطور الكتب كنرجسة مبللة بالرذاذ، فيكتب كلمة إلى جانب كل حرف يمر من اسمها أينما وجد؛ زين، زنبقة القلب، هاء، هوائي وهواي، راء، رعشة الشفاه، تاء، تلة الروح. يراها في وجه أمه، يسمعها مع غناء فيروز.
سألني: (هل وقعت في الحب يا أناي؟).
قلت: (لكنها لن تكون لك، هي صغيرة وأنت على بوابة المراهقة، هي غنية وأنت فقير، هي في وطنها وأنت غريب، هي تنام في بيت قبالة البحر وتحلم ببحّار يمتطي فرسا لازورديا، وأنت تنام في غرفة مع ثلاثة أخوة، هي تزور المقصف في الفسحة المدرسية وتشتري ساندويتشات لم تسمع بها، وأنت تسد الباب بهامتك الطويلة النحيلة وتدعي الشبع، اعشقها كما تشاء ولكن لا تصحبها معك خارج المدرسة).
رسم عقدة بين حاجبيه فبدا وجهه قبيحاً، قفز من فوق الصخرة وركض ككلب الصيد الذي يشم رائحة الطيور في كل الجهات. عاد فأخفى رأسه بين ركبتيه ونشج. وبعد أن استكان: (زهرة فتاة تجمع الضدين، فهي تفيض سحرا وجمالا، لكن خطوتها كجندي متمرس، أخشى أن يكون طموحها دخول الجيش أو قوى الأمن أو الاستخبارات، ولكنني لن أخاف اعتقالها لي..).
ذكّرته بالتحية العسكرية التي أداها لها بتلقائية حين مرت أمامه ذات صباح، دُهشَت يومها وتجاوزته مبتسمة، فابتسم بغرور وسار واثق الخطوة يمشي عاشقا..
أنّبْتُه عندما نسي شراء هدية لها من القاهرة، فدافع: (ستبقى زُهرة الفتاة الحلم التي لا أحلم بتجسيدها، اقتربت مني مرةً وقالت: “ألا تدعوني لكوب عصير، بدلا من متابعتي من بعيد؟ اشعر بالعطش..”. أنقذني جرس الحصة التالية، مسحت وجهها بعيني وانطلقت كالهارب من ورطة. لو لم يدق الجرس، لكنت انسحبت إلى الفصل وادعيت الانشغال، باختصار أيها الفضولي، لم أكن أملك ثمن كوب العصير، منذ ذلك اليوم، حرصت على عدم الالتقاء بها).
سألته: (حسنا، لماذا لم تحضر هدية لأبي القاسم أو لأميرة التي بحت لها بحبك وخنتها مع زُهرة،على الأقل تعويضا عن إهمالك لقلبها). رد عليّ: (هل تعتقد أنني غير مخلص، أو خائن؟ أما أبي، فلم أحضر له هدية لأنني تذكرت اليوم الذي أحضر فيه بندقيته وصوبها نحوي، حين رفضت الدخول في عراك مع شباب صغار اعترضوا طريقي، قلت له: “أنا لا أتعارك مع النازحين، وأخشى أن أتسبب لهم بأذى، وأنت تعلم حين يدب الغضب في دمي فإنني أتحول إلى وحش، وسألته، أي جينات تسري في خلاياي؟ أنا لا أكره أبا القاسم أبداً كما قد تظن”.
اقترحت: (كان بإمكانك تقديم اللفحة التي أحضرتها للفؤاد طالما غادر ولم ينتظر وداعك).
أوضح لي أنه يريد الاحتفاظ بصورة الفؤاد في نفس الزاوية من الروح التي يحتفظ فيها بزُهرة، سيبقى يخاطبهما بحرية مطلقة، ويشكلهما كما يشاء، لكن قد أدعو زُهرة لكوب عصير لو التقيتها صدفة وأدّعي أنها تشبهها، وألقي اللفحة على كتفي الفؤاد وأدعي أنه توأمه.
واجهته: (أنا لا أفهمك، وأذهلتني ممارستك الجنس في القاهرة مع امرأة تكبرك بعشر سنوات، ولم يقنعني تبريرك بأنها تشبه زُهرة، يبدو أنك ستعشق كثيرات وتمارس الجنس معن للسبب ذاته، أو لسبب آخر لا أعلمه حتى الآن..).