والآن اسكنوا عيني وذراعي وكفيّ لنثبت هذه المخطوطة على بيت أمكم
وجدت هذه الرواية على قبر أم الفؤاد، واسمها الحقيقي المنقوش بالخط الكوفي على شاهد القبر مريم بنت عبد المالك، وتحته ذُكر تاريخ ميلادها ووفاتها؛ 1925-2008، توفيت بمرض الشوق المزمن.
قال لي حارس المقبره إن رجلا كشف عن سنواته الستين في اللحظة الأولى لوصوله، حضر ومعه مجموعة من الأوراق كان قد حشرها في ملف أخضر، طاف ببيوت الآخرة البيضاء المنتشرة بترتيب متقن، وأخذ يطرق بحنان على سطوحها كأنه يوقظ أصحابها من نومهم، ثم عاد ووقف أمام شاهد القبر وتحدث كمن يلقي كلمة في حفل رسمي: (أيها الأحبة والأقارب والأصدقاء والجيران والمعارف الأوفياء، أيها المواطنون الكرام، أما وقد استجبتم لدعوتي المفاجأة وغير الرسمية، فإنني أنحني أمامكم جميعا محييا صبركم الطويل على منفاكم الاختياري، مقدّرا لكم انسجامكم وتفاهمكم ووحدتكم وتعاطفكم مع بعضكم بعضا، ومحبتكم التي تتبادلونها مع كل شروق شمس وغروب قمر، وتناسيكم للصراعات والانقسامات مقسمين على التشبث بهويتكم الواحدة، وأشكركم على رعايتكم لأم الفؤاد في حضورنا وغيابنا. أنتم تعلمون أن الأرض التي تقيمون فيها ليست أرضكم، وإن حمل بعضكم القليل جنسية هذه البلاد، وهذه البيوت ليست بيوتكم، والأشجار التي تظللكم ليست لكم، باختصار، لا شيء لكم في هذه الجغرافيا المضيافة، ولهذا سيتم نقلكم جميعا إلى بيوتكم التي عشتم فيها، وسيأتي وقت من الدهر يظن زائر هذا المكان أنه لا يزال يضمكم، سنتركه لظنه الذي يجلب له القليل من الاستراحة من شوقه المزمن لكم، لكنه سرعان ما سيكتشف أنكم لستم هنا، بل إنكم الآن لستم هنا وإن حضرتم سريعا، بل إن حضوركم السريع يؤكد غيابكم عن هذا المكان وسكناكم في أوردة الروح، في تجليات قلبي وقلوب أحبائكم، أنتم موزعون في القلوب، ولهذا، ستحتفظون بنضارتكم أبد الدهر، وحين تحين ساعة الرحيل إلى موطنكم الأصلي ستقومون قيامة رجل واحد، تمتشقون لجوءكم، تحملون بقجكم وتمشون مع الهواء الجنوبي المتجه شمالا، هناك ستنامون بهدوء، وستتداخلون بالتراب والجذور وتسيرون في جذوع الزيتون، وتحلقون مع العصافير التي ستضحك كأطفال في شهورهم الأولى. والآن اقتربوا من هامتي واسكنوا عيني وذراعي وكفيّ لنثبت هذه المخطوطة على بيت أمكم أم الفؤاد، قد يلعب بأوراقها الريح، قد يبللها المطر، لكنها ستبقى تقلب أوراقها من البداية حتى النهاية ثم تعود من الصفحة الأخيرة حتى الأولى، سأتركها في رعايتكم وأمضي، وقد أعود فأقيم معكم إلى أن يُقرعَ جرسُ الله، فمدوا أياديكم لنهدي أم الفؤاد كتابها، فهو هدية الغائب إلى الغائبة، والحديث المؤجل حتى اللحظة..)
قال الحارس إنه راقب المشهد وشعر جسده ينتصب، عاشه حتى كاد أن يرى المقيمين يجتمعون حول الرجل، فقد انتقل من أمام قبر أمه وبدأ يمد يده اليمنى ويقرّب راسه ويحرك ذراعه اليسرى كمن يعانق الناس حتى انتهى، ثم تقدم خطوتين وانحنى، فثبت الملف الأخضر على سطحه وغادر.
كان الوقت قبل المغيب، نظرت خلفي فرأيت سلمى لا تزال منتظرة على الشرفة، قلت في نفسي، غافلني صلاح وترك لي ذاكرته كلها. جلست أمام القبر، أزحت الحجر من فوق المخطوطة، التقطتها ورفعتها، بدأت أجزاؤها تتساقط وتطير لتحط على بيوت النائمين إلى الأبد، وبقيت متشبثا بالجزء الذي كان مخفيا تحت الحجر.
صرفت الليل في جمعها وقراءتها حتى تحسست يد صلاح تمسد قمة رأسي كأنه يوقظني من النوم.
الفصل الثاني
صادْ
(الحليب الذي يقطر من ثديين خضراوين يشبه زيت الزيتون)
كان مصطفى فقيراً وقصيراً وشاباً صغيراً، يحضّر الشاي من ماء الشتاء، يستمتع بمضغ الزعتر البري، بالسير عاري الصدر في “كانون”، ينتشي لسماع قصص الحب، ويصف ذلك لصديقه صلاح: (أصبحُ طائراً حُراً أطلقه صائده بعد حبسه في قفص لشهور، قصصك بعينها يا صاحبي تجعلني أرافقك وأنت تغذ السير ممتلئا بالدهشة لرؤية صبية صغيرة تسكن في بستان بعيد، تبتسم لها وتضحك لك، ولا يستغرق المشهد أكثر من ثلاث دقائق كما تقول، تعود بعده إلى سجنك الشاسع، أحب أن اصدّق كل القصص التي تزرع سهل قلبي بالقمح، ولكن، أحقاً تتسلق جبلاً لتفوز بضحكة فتاة خجولة يا صلاح..؟). فأتعمد نقل خياله من سهل قمح إلى شجر الهضاب: (هل جرّبت الوقوف على قمة جبل عاري القدميين، تعرّي نصفك العلوي، ترفع ذراعيك فتلامس الغيوم، تغمض عينيك فلا ترى إلا فتاتك، والعالم يدور حولك، وأنت مركز الكون، وتهب عليك نسائم محملة بروائح إكليل الجبل، وينتابك شعور من يستحم بماء ورد؟ هكذا أشعر حين تضحك لي “ياسمين”، تلك الفتاة البرية التي لا تعرف سوى لغة النايات..)، فيسألني: (وياسمين، ماذا تشعر؟)، أبتسم بخجل ممزوج بالمرارة: (كشعور أي فتاة يمر بها عابر لا تتوقع عودته في اليوم التالي..).
وسامة مصطفى كانت مضرب المثل في المخيم، قال حين تغزلت به النساء الزائرات لأم الفؤاد بعد انتهائه من طقس الاستحمام: (الأمهات النازحات أيضا يلدن شبابا يرضى عنهم الله ويرضيهم..).
أعظم الكلام همسته ذات العينين الخضراوين: (أتراني أجمل منك يا مصطفى؟)، وأبلغ الإجابات تهادت من شفتيه وسحر عينيه: (خلقك الله لتكوني أجمل من أي فتاة في أروع قصة حب، وخلقني كي أموت فداء لهما..). سألتُه: (أتموت فداء لعينين خضراوين يا صاحبي؟).
أسرع بعاطفة جياشة: (لا أكذب في الحب يا صلاح، عينا أمي خضراوان، وعينا مدرّستي خضراوان، ولون ريش العصفورة التي تنقر القمح من يدي كل صباح أخضر، وأبي قال إن لون عينيّ القابلة التي سحبتني إلى الدنيا خضراوان، وقال لي أيضا إن لون نهديّ قريتنا خضراوان، أحببت تصديقه، ربما قصد أمرا آخر..).
دار حديثنا يومئذ عن الأثداء الخضر. تساءلتُ: (ما لون الحليب الذي يقطر من ثديين خضراوين؟ هل يشبه لون زيت الزيتون مثلا؟).
قال: (بدأت أفهم المعنى الذي رمى إليه والدي، رحمه الله، أطلقت عليه لقباً قبل وفاته “شجرة زيتون”).
كنا أكثر من جارين وصديقين، ولدنا في البقعة الضيقة ذاتها، اعتدنا على أحاديثنا القليلة، وإذا اُتيحت لنا الفرصة مِلنا نحو التكثيف؛ لم نكن قد اطلعنا بعد على مقولة النفّري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، ولم يكن قلبانا قد امتلآ بالكشف بعد المغامرة الفاشلة.
في منتصف العقد الثاني من عمرينا جمعنا الأصيل ذات يوم فوق صخرة عالية تطل على مدينة صور المحاطة بالبحر من خاصرتيها؛ أومأت لمصطفى بعد طول صمت: (المشهد يذكرني بالرحيل المخيف..)، ارتجل سريعاً: (بل بالخريف العفيف..).
اختزلنا حديثا طويلا، فساعة قلت جملتي؛ صببت ماءً باردا على تفاصيل سجننا الكبير بعد مغيب الشمس، خبأت الحركة المتشابهة داخل الجدران اللبنية وأسقف الزينكو، ورأيت ما يراه الكبار المهزومون؛ البيوت وهي تفرّخ كائنات قلقة، والأمهات النازحات وهن تلدن مزيدا من الأبناء في بيئة يتلوى الضجر في طرقاتها كالرؤوس الفارغة؛ تحرّض رتابتها على الانفجار، والركض كزوبعة في أزقة ضيقة، سكانها ينتظرون معجزة _وليس بينهم أنبياء_ تنقلهم من منفى يابس يحمل آلة تنفث هواء جافاً فيشقق ذاكرتهم، إلى بيوت شيدوها بما نزَّ من أبدانهم.
وقت قال مصطفى جملته “بل بالخريف”، كان يعني؛ لا غريب يبقى تحت مطرقة، تأكدت من معناه حين تكاشفنا، واتفقنا على ما أخفينا.
على بوابة المراهقة، روحانا ترتديان جسدين نحيلين، وبدلا من الولوج إلى واحة الرومنسية والتلذّذ بخيالاتها، قررنا التحوّل إلى وحشين شرسين، مدفوعين بصورة شاب فدائي زرع اسطورته أمام الناس.
كانت مجموعة فدائية عائدة من الجنوب، كُشف أمرها فلجأت إلى المخيم، انتشر عناصرها على أطراف المكان، تناوبوا في تبديل مواقعهم، عبروا الطرقات بسرعة وسط دهشة أهالي المخيم وهم مدججون بالسلاح وملثمون بكوفيات حمراء وسوداء، قرروا التجمع في وسطه، ظل “أبو عرب” محاصراً في بستان البرتقال المؤدي إلى حارتنا، غير قادر على العبور بسبب قناص يعتلي العيادة الواقعة شرقاً، كلما حاول أن يطل برأسه يرشقه القناص بالرصاص، فيتراجع محتمياً بسور البستان، وفجأة؛ قفز فوق السور مُطلقاً النار نحو الجندي، مشهدٌ لم نشاهده من قبل إلا على شاشة السينما المتنقلة، جسّد الفدائي أسطورة نحتتْ رهبتها وقداستها في مخيلة الناس، صفقوا طويلا، هتفوا بشعارات وطنية، وبعد ساعتين غادرت المجموعة المخيم بناء على اتفاق مع الجيش.
فوق صخرتنا المعروفة، فرّج مصطفى عن مكنونه بعد صمت: (أريد الخروج من السجن..). وافقته على الفور بحماس، وضعنا خطةً بدائية؛ صعود الجبل الفاصل بين لبنان والشام، والالتحاق بمعسكر تدريب.
داهمنا الليل قبل وصولنا قمة الجبل، كنا متسلحين بسكينين حادتين طويلتين وعصاتين مليئتين بالعقد والمسامير الناتئة، سمعنا أصواتاً غريبة، قريبة وبعيدة. شرح مصطفى: (هذا ليس نباح كلب، ربما يكون عواء ذئب..). فأجبته: (تشابهت علينا الكلاب ياصاحبي)، وسألته لمجرد السؤال، لأسمع صوتي أيضا: ( أنا كفيل بالكلاب المسعورة يامصطفى، ولكن هل يهاجم الذئب الإنسان؟)، ردّ بلغة الواثق: (يهاجمه ياصلاح؛ ولم لا..).
سألت بشكل عابر: (وهل هاجمك ذئب من قبل يا مصطفى؟).
رد بجنون وهو يلتفت حوله: (لا أدري، ربما قبل ولادتي، وأنت؛ هل هاجمك كلب مسعور يا صلاح؟). أجبت بلا مبالاة: (نعم، ولكن بعد ولادتي..)
لم نأخذ إجاباتنا على محمل الجد رغم كثافتها، تعمّدنا تكرار اسمينا، ربما ليشعر كل واحد منا أنه لن يواجه الذئب وحيداَ. أخرجنا سكينتينا بحركة واحدة من كيسيّ قماش، اتفقنا على تسريع الخطى، وعدم الالتفات إلى الوراء، حتى لا تشعر الحيوانات أننا هاربان.
زاد مصطفى الأمر تعقيداً: (هل يهاجم الضبع الإنسان ياصلاح..؟).
نقلت له معلومة: (قالت لي جدتي إن الضبع يهاجم الإنسان الخائف..).
أسرع مصطفى: (لست مضطرا لقول هذا ياصلاح، أنا لست خائفاً..).
أوضحت وأنا أتقافز فوق الصخور المضاءة بأشعة القمر: (لم أقل أنك خائف، احتمال ضعيف أن يكون الصوت لضبع، فهو إما لكلب أو ذئب يامصطفى، رغم أني لم أسمع صوت ضبع من قبل..!).
تبادلنا المعارف بتفاهم غير معلن، سرنا بهمة رجلين اعتادا الخروج ليلاً، تحدث مصطفى طوال الوقت، تعمّد تكرار اسمي بين كل جملة وأختها، عن حبيبته التي لم يقابلها بعد، التي سينجب منها عشرة أولاد وبنات، وعن الوردة التي سيلثمها ثم يهديها لأمه قبل خروجه في عملية فدائية، وعن عودته سالما منتصرا، وقد يتمكن من أسر جنديّ إسرائيلي، تحدث عن أشياء كثيرة باستثناء الليل والضباع. فاجأته: (هل تتحدث اللغة العبرية؟). فهم قصدي ولم يجبني.
اجتزنا النقطة الحدودية بسلام، ووطأت أقدامنا أرضاً معبدة بعد الأرض الوعرة، تبادلنا النظرات والابتسامات، لكنه استنكر لمعانا لمحه على خدي الأيمن، حاول بث الثقة في رُكبي بما أنه يكبرني بعام: (وهل تبكي الوحوش ياصلاح؟ أعلم أنك أقوى من الذئب والضبع والكلاب جميعها، نحن ذاهبون لنجفف الدمع في مآقينا..).
بحت بخجل: (لم يُبْكني الذئب يا مصطفى، أنت تعلم أنني أسرع منه، أصدقك القول، رافقني وجه أمي منذ لحظة صعود الجبل حتى وصولنا، اتضحت ملامحها أكثر حين سمعنا العواء، ألمها يوجعني، ودمعها يحرقني..).
بلغة مُطمئنة، تحدث مصطفى وهو يشير إلى السيارات التي كانت تمر بنا كالبرق: (لا تقلق ياصاحبي، سيتولى صديقنا إبراهيم إخبار عائلتينا عن وجهتنا حين يحل المساء..).
عانقته بحرارة وصدق: (لو لم تُخبرني لصعدت الجبل وانحدرت ثانية واجتزت المسافة ركضاً لأمسح دمع أمي، الآن سيهدّئ أبي من روعها، أكاد أسمعه: (لا تقلقي يا أم الفؤاد، صلاح أصبح رجلا، سيفعل ما عجزت وجيلي عن فعله، صحيح أن هدوءه قد يوحي بالخجل والاستكانة، لكنه أصبح قناصا ماهرا بعد أن أعطيته بندقية الصيد، اطمئنّي، صلاح يلعب بالعصا مثلي، يستطيع طرح خمسة رجال دفعة واحدة، أنا دربته على هذا، ثم أن سرعته تفوق حصانين، وإذا ما غضب يتحول إلى زوبعة من نار، شاهدت هذا بنفسي حين هاجمَنا كلب مسعور، سيعود يا أم الفؤاد، لا تقلقي..).
بادرني صاحبي: (لِمَ لم تحكِ لي قصة الكلب؟).
وجدتها فرصة سانحة كي أقصّ عليه قصتي: (خشيت ألا تصدقني، لأنني عجبت مما فعلت، باختصار؛ كنت وأبي نتمشى في كرم الزيتون، بالقرب من صخرتنا، رأينا كلبا قادما نحونا بسرعة وتوحش ونوايا افتراس، كان نباحه غريبا، كمن يتغرغر بزيت ساخن، قال أبي: “انتبه ياصلاح، هذا كلب مسعور، اركض بكل قواك..”، لا أدري يا مصطفى ما حلّ بي، تحولت إلى كائن مسعور، أحسست بدمي يلسعني قبل وصول الكلب، بدأت أصدر أصواتا شبيهة بتلك التي يصدرها الكلب، سحبت سكيني التي أحملها دائما، وقفت بثبات لمواجهته وجعلت أبي خلفي، اقترب أكثر وقفز قاصداً نهشي، قفزت أعلى منه واستدرت، توقف واستعد لمهاجمة أبي، انقضضت عليه من الخلف وطعنته عميقا في رقبته، واصلت الضغط على رأسه بيدي الأخرى وأنا أزمجر مثله حتى همد، سحبت السكين ونظفتها بالتراب، نظرت نحو أبي فتراجع خطوتين وفي عينيه ذهول، جلستُ مطأطئ الرأس مغمض العينين لدقائق، انتفضت حين فتحتهما ورأيت الكلب. سألت أبي بصوت مرتعش: (من قتل الكلب؟).
اقترب وعانقني طويلا، بللت دموعه جبيني، وعدنا إلى البيت بصمت، وكفُّه الكبيرة تحتوي كفّي.
نسي مصطفى التلويح للسيارات واقترب محملقا بعينيّ: (أكاد لا أصدق..)،
قلت: (ولا أنا..).
فاستفسر: (هل كنت ستفعل بالكلب أو الذئب ما فعلته بالكلب المسعور؟).
أجبته: (لا أدري، ربما..).
تذكر صلاح حديثي عن أمي وعاتبني بهدوء: (هل كنت ستتركني وحيدا وتعود إلى أمك؟).
أكدت: (كلا ياصديقي، كنتَ سترافقني في العودة، وأرافقك ثانية في مغامرة؛ محصنين برحمين دافئين..). سألني بصوت عادي جدا: (ماذا لو ماتت أمك مثلما مات أبي؟)
كأنه قال إن المطر توقف، أو إنه أنهى سندويتش الفلافل، واستمر بالتلويح للسيارات، بينما انطلقت ساقاي كأن نارا مسّتهما، ركضت عشرات الأمتار نحو الأمام ومثلها نحو الخلف، عبرت الشارع جيئة وذهابا وسط ارتباك حركة المرور وزعيق السيارات ولعنات السائقين والركاب، هدأتُ وقلت لمصطفى: (لا أستطيع التفكير في الأمر، ولكن لن أدعها في دارها الأخيرة، سأعيدها إلى البيت وإن طال الزمن، ولكن قل لي يا صاحبي، كيف مات أبوك؟).
ظل يلوّحُ للسيارات: (استمعَ إلى نشرة أخبار المساء، ولم يستيقظ في الصباح..).
قررتُ في أعماق نفسي أن أمنع أمي من متابعة نشرات الأخبار، سيَّما المسائية، فالأخبار الصباحية تذروها أعباء غسل الملابس والصحون وإعداد الطعام ومناوشات الأب والاهتمام بالأبناء.
فاجأني مصطفى: (هل يجب أن نستأذن والِدينا كلّما قررنا القيام بمغامرة يا صديقي؟).
تعجّبت: (لماذا يقومون بمغامرات ولا يستأذنوننا؟).
التفت بكلّه نحوي: (مثل ماذا ياصلاح؟).
بسرعة: (مثل وجودنا، مثل حريتنا أن نولد في المخيم، مثل أن يكون اسمي صلاحا وليس صابرا، لماذا ألتفت كلما سمعت أحدا ينادي هذا الاسم..).
توقفت شاحنة كبيرة يقودها رجل في الخمسين من عمره، سمح لنا بالصعود قبل أن يسألنا عن وجهتنا: (ألستما صغيرين على ما ستقدمان عليه..!).
رددت: (الغربة ياسيدي تصيب أبناءها بسرعة في النمو..).
أنزلنا متمنيا لنا السلامة، وشكرناه على رحمته.
تأملتنا صاحبة الفندق من رأسينا حتى أسفل أقدامنا: (ماذا تريدان أنتما أيضا في آخر الليل، مازلتما صغيرين على النزول في الفنادق، خاصة فندقي هذا..).
وضع مصطفى كفه على معدته الخاوية: (نحن متعبان، قطعنا مسافة طويلة سيراً على الأقدام..).
غسلنا وجهينا بسرعة، قاومنا اللجوء إلى السرير، ثم غادرنا الغرفة.
سألت المرأة: (إلى أين أيها البطلان؟).
شرح لها مصطفى: (نحن جائعان جدا، لم نأكل أو نشرب منذ الصباح..).
تبادلتُ ومصطفى النظرات، توصلنا ضمنيا أننا لن نأكل بشهية مع غريب، أرشدَتنا حين تأخر ردنا إلى محل قريب يبيع الفلافل.
التهمنا السندويشات بتلذذ ونحن نراقب السيارات القليلة المارة بهدوء في الشوارع شبه الفارغة، قلتُ والطحينة تسيل من طرف فمي: (هذا أطيب سندويش فلافل أكلته في حياتي..).
رد مازحاً: (وهل تناولنا سندويشات غير الفلافل في حياتنا يا صاحبي؟!).
كنا على حافة النعاس لحظة سمعنا طرقا على الباب، دخلت صاحبة الفندق مبتسمة: (ألا تريدان شيئا؟).
تبادلنا نظرات الدهشة، جلست على حافة سرير مصطفى وحدثتني: (أحب أن أتمدد إلى جانبك وأحكي لك قصة ما قبل النوم، ثم أنتقل إلى صديقك الجميل وأحكي له قصة أخرى..).
غادرت السيدة بعد صمتنا المخيب لآمالها، غطى كلّ منا رأسه باللحاف، ثم انفجرنا بضحك هستيري.
صعدنا إلى الحافلة وهبط أناس كثيرون، خشينا توجيه سؤال لأحد عن المعسكر الذي يدرب الفدائيين، تقدم منا شاب في العشرين من عمره لم يهبط وبقي مكانه: (يبدو أنكما مثلي تدوران فقط في الحافلة دون أن تعرفا وجهتكما..).
قال من فوره حين علمها: (الآن عرفت وجهتي..).
لم يلتحق بالمعسكر، كان عليه إحضار ورقة من الأمن تسمح له بأن يصبح فدائياً، غادر حزينا ودخلنا فرحين.
لم تكتمل الفرحة؛ فبعد نقلنا إلى معسكر الشبيبة، تبيّن أن المدرب هو إياد، الطالب الذي كان يرسب عامين في كل صف دراسي، فطرد نفسه بنفسه من المدرسة بعد اعتدائه على مدرس الرياضيات، همست لزميل في المعسكر: (أعرف هذا المدرب، كنا في مدرسة واحدة، سبحان الله..).
بعد نصف ساعة استدعاني إياد وسألني إن كنت أعرفه، امتقع وجهه حين أجبته، ارتبك وتمتم: (هل تحتاج إلى شيء؟ هل تريد أن أزيد نصيبك من السجائر مثلا؟!).
في طابور اليوم التالي، استعرض صلاحياته: (أنتم في دورة خاصة، عليكم الانتباه، لو قُتل اثنان منكم أثناء التدريب لن أتحمل المسؤولية..). لا أعلم لماذا نظر إلي، كأنه خصني بكلامه.
ذهب مصطفى إلى غرفة قائد المعسكر مساء ليشكو زميلا شاذا تحرّش به، طرق الباب وفتحه دون استئذان، وجد القائد مع امرأة جذابة ترتدي ثوبا قصيرا، وأمامهما مأدبة عشاء تحتوي ما لذ وطاب، حملق مصطفى بالمائدة ولم ينتبه لتأنبيب رئيس المعسكر: (عليك الاستئذان قبل الدخول يا وحش..).
ظل مصطفى زارعا نظراته في المائدة، فسأله: (ألم تتناول عشاءك؟).
انتبه مصطفى: (عدس وخبز..)، وهَمَّ بالمغادرة، لكن رئيس المعسكر استبقاه وسأله عن سبب اندفاعه ودخوله فأجاب: (أخطأتُ بالباب، كنت ذاهبا إلى بيت الراحة..).
أسرّ لي مصطفى بسؤال على انفراد: (هل اشتقت لأم الفؤاد؟).
لمعت عيناي ففهم الجواب، وأصيب بمرض بعد عشرين يوما، ارتفعت حرارته بشكل خطير، وإذ تماثل للشفاء، تقدمنا بطلب زيارة لأهلنا، وافق المدرب مباشرة: (لا تذكروا اسمي أمام أحد).
طلبنا من قائد المعسكر أن ينزلنا السائق في المكان الذي أقلتنا منه الشاحنة في رحلة الذهاب، لم يكن لدينا أوراقا ثبوتية، وأردنا أن نسلك الطريق ذاتها في عودتنا، لن نخشى الضباع ولا الكلاب أو الذئاب.
تأملَنا القائد ووجّه كلامه لي: (لماذا لا تبقى أنت، لقد أذهلتني، رأيتك وأنت تتسلق عامود النار كأنك جمرة متدحرجة نحو السماء، وأدهشتني قدرتك على التصويب والقفز..).
قلت له إنني قد أعود، ولكن يجب أن أرافق صديقي. مد يده إلى صندوق خشبي، وأخرج مسدسين صغيرين ألصقهما في قعر حقيبتينا، وحدَّث مصطفى: (تلك كانت خطيبتي.. أنتما أكبر من عمركما أيها الوحشان.. وسأزوركما عما قريب في المخيم..).
على الصخرة ذاتها قال مصطفى: (احتضنتني أمي وقالت كيف تتركنا وأنت ابني الكبير ورجل البيت، فقبَّلتُ يدها..).
أكملتُ: (ألصقتني أمي بصدرها طويلا ولم تقل شيئا، لكن شعر رأسي تبلل بماء عينيها المقدس..).
عصر ذلك اليوم، سمعنا نباح كلب، عرفته مسعورا، كان يركض بجنون في اتجاهنا، أمرت مصطفى ألا يتحرك، قفزت من فوق الصخرة ووقفت ثابتاً، لم أصدر صوتا يشبه صوته، تركته يتقدم، توقف حين اقترب منا وهو يواصل النباح، وحين هم بالقفز أطلقت عليه النار من مسدسي وأصبته في جبينه مباشرة، فخرّ صريعا.
مصطفى بهدوء: (سينفضح أمرنا..).
طمأنته بهدوء: (إنها طلقة واحدة ياصاحبي، لن ينتبه أحد..).
كانت الحُمى تزور مصطفى لثلاثين دقيقة ثم تتلاشى، مرت ستة شهور وهو يعاني، حيّر أطباء “الأونروا”، يدخل بعد الحُمى في صمت وحالات سهو، أثبتت نتائج االفحوصات عدم إصابته بمرض عضوي، لكن الألم المصاحب للحمى، الذي كان يقفز كجرذ في داخله من مكان إلى آخر على امتداد قامته كان يضعه على حافة الجنون، كان يهدأ بعد آخر وخزة بخمس دقائق.
سهرنا معاً، في تلك الليلة لم يتعرّض لنوبة حمى وألم، قضينا وقتنا ساخرين من كل شيء، بما فيه تفاصيل مغامرتنا الفاشلة. تذكّر مصطفى: (أنا على يقين أن تلك الشابة لم تكن خطيبته..).
مازحته: (لكنك ركزت على الدجاج والكباب أكثر من ساقيها..).
ضحكنا كمراهقين طازجين، ودعنا بعضنا ونحن نضحك، تعانقنا لأول مرة منذ عودتنا. استبد بي حزن جارف حين وصلت البيت، استجبت لغواية عزلة الفراش، هيأت كل حواسي فأغمضتُ عينيّ، وانتظم تنفسي حتى بدأت أدخل عالم النوم الغامض. استعدت فيما يشبه الحلم حديثنا على قمة الجبل، وأمنيات مصطفى في أن ينجب عشرة أبناء، كنت أعلم أنِّي لا أحلم أو أتذكر، لكنني استسلمت لكلتا الحالتين، ولسلطان النوم.
شعرت بأنفاس حارة تقترب من عنقي، كأنها تخرج من بين فكي نمرٍ شرس، تململتُ قليلا واستسلمتُ للنعاس، ربما هرباً من المواجهة، عادت الأنفاس كالفحيح تزحف على ظهري ببطء، كأن أحداً يمرر لسانه على عامودي الفقري ويهم للالتصاق بي حد الافتراس التام، استيقظتُ بقلب يتقافز في صدري كالعصفور، كان أخي الذي أشاركه الغرفة غارقا في النوم. بسملتُ وتعوذتُ من الشيطان الرجيم بشكل لا إرادي، عدت لأمدد هامتي بهدوء، ثم تكورت كالجنين محاولا الاستسلام للنوم، أحسست بقرصة في خاصرتي، ظننت أنها حساسية الخوف التي تثير هرش الجلد، تكرر اللكز، أصبح أكثر قوة وألما فانتفضت، وقفت منتصبا أنظر حولي باستغراب، جلت ببصري في الغرفة؛ الستارة القصيرة الممزقة مفتوحة، تتحرك كأن أحدا اخترقها قبل لحظات، قفزت بخفة نحو الباب لأجدني في مواجهة عتمة شفافة، انتبهت لحركة في خاصرة شجرة الليمون اليمنى، كأن كائنا ثقيلا أو إعصارا شديد السرعة مر بها، ارتعشت نبتة “الميرمية” بالطريقة نفسها، تحركت رؤوس أغصان شجرة الياسمين الممددة على سور البيت، وقعت فريسة صمت باغتني وسط عتمة كان يشقها ضوء قمر خافت، فتحت البوابة الرئيسة للبيت بجرأة، نظرت يمينا وشمالا، حملقت في الزوايا الداكنة، وبالعشب المتمايل كأن قطاّ كان يخترقه.
بين الفزع والفزع يتسلل أنينٌ خفيفٌ من مكان ما، تجوّلت في دروب الحارة الضيقة دون أن أهتدي إلى مربض الوجع، فعدت إلى البيت متوتر الحواس، وفي اللحظة التي كانت تفصل كفي عن مقبض بوابة البيت اخترقت قلبي صرخة شقت صدر الليل وأطفأت القمر، لم أطاردها، قتلت فضولي وتآمرت على هواجسي المرعبة، ظللت مستيقظا حتى بدأ أطفال الفجر رقصتهم لاستقبال الصباح، ومع انتهاء مراسم الشروق انتشر خبر موت شاب في الحارة؛ (مات مصطفى..)
لم أندفع نحو بيته، لم أضرب كفاً بكف، لم أبك أو أصرخ أو أغضب، اعتقدت أن مصطفى تعرّض لنوبة ألم ثقيلة، وسيتناول دواءً مهدئاً وينام، ثم يستيقظ ويتابع حياته، فيزورني في المساء، ويحدثني عن حبيبته التي لم يقابلها بعد.
أدركت معنى مفردة الموت حين اندفعت أمي نحوي مباشرة واحتضنت رأسي، همست في رقبتي كلمات فهمت منها أنني لن أقابل مصطفى إلى الأبد، وشجعتني على الذهاب إلى بيت العزاء لأقف إلى جانب أهله في مصيبتهم: (قدِّم الماء والقهوة للمعزين قبل بدء الجنازة يا بني، وامش في جنازة مصطفى، وشارك في حملِه وهم ينزلونه في القبر..).
عزاء ومعزّون وجثمان وجنازة ودفن، لا علاقة لهذه المفردات بآلام كانت تتقافز داخل جسد صاحبي بحركات رعناء، ولا علاقة لها بالصراخ والمستشفى ومواعيد الزيارة والعودة إلى البيت، تساءلت إن كان لكل ما حدث علاقة بمغامرتنا، بتدريبنا، بصلاحية المدرب في قتل اثنين، بامرأة جذابة تزور قائد المعسكر، في الدجاج والكباب والعصير الطازج والعدس!.
علمت أنه الخروج الكبير الذي لا عودة منه، لن أجد بعد تلك اللحظة وجها ينصت إليّ، ولا روحاً أضحك معها، ولا رفيقاً يسير إلى جانبي في كرم الزيتون، ولا صديقاً يرافقني إلى المدرسة، ولا قلبا أحدثه عن الفتاة التي أقطع الجبال والسهول لأرى ضحكتها، شعرت أن أمي حين احتضنتني بكل حنان رحمها، كانت تبني حولي سوراً يمنع الموت من الاقتراب مني: (ربما لا يزال يتجول في القرية ياصلاح يا ولَدي، لا تلتفت كثيراً في طريقك إلى أخيك مصطفى..).
سحبت رأسي بهدوء من بين ذراعي أم الفؤاد، وقفت على ساقين مهزوزتين، انطلقت راكضا في دروب الحارة الصغيرة كمن أمسكت به نار، توقفت عند بيت مصطفى حتى هدأت، سمعت بكاءً حاراً يفيض على حواف الشبابيك ويربك خضرة الأشجار، تناهى إليّ صوت أم مصطفى تغني! تساءلت عن العلاقة بين الموت والغناء فاقشعرّ جسدي، وفجأة؛ ظهرت فتاة من غرفة تشهد خروجاً ودخولاً كثيفاً، سال دمعي حين التقت نظراتنا، أخفضت رأسي وهي تمر بي حاملة قلباً متشقّقاً يحتضن وجه شاب ميت، كان مصطفى من أجمل شباب الحارة، وأكثر الشباب وسامة في المنطقة كلها، وتلك الفتاة حبيبته، عرفتها من عينيها الخضراوين، استشعر ذات جلسة على الصخرة: (أحب العيون الخضراء ياصلاح، يا الله ما أجمل الضياع في غابات الضوء والدفء..)
خلعت نعليّ، تقدّمت بهدوء المسكون بفكرة غامضة، شهقت أمه بالبكاء حين شاهدتني وحيداً، خاطبت مصطفى المسجى: (صاحبك حضر وحيدا، قم واستقبله يا حبيبي..)، وواصلت النحيب.
أكملت شق الازدحام حتى وصلت جسد صديقي الملفوف بالأبيض، أمرت أم مصطفى بصوت ثابت: (ارفعوا الغطاء عن وجه حبيبه حتى يودّعه، ربما توقظه حرارة الوداع).
أشرت بيدي بألا يفعلوا، بقيت واقفاً أمسح الكتلة المستطيلة البيضاء بعينييّ، صعوداً وهبوطاً، تسللت لي فكرة اختطافه والهرب بسرعة فائقة لينتهي الغناء المأتمي، فشلت بجدارة، ركعت بالقرب من رأسه بهدوء: (هل غادرتك الحمى الآن ياصاحبي، هل انتهى وجعك؟).
قبّلته حيث يفترض أن يكون رأسه، وخرجت مطأطئ الرأس عائداً إلى البيت، وأنا أردد في داخلي: (ساعة تنتهي أوجاعنا.. نموت، حين نُشفى من الحمّى.. نموت)، كررت الجملة ذاتها حين وصلت البيت بصوت مسموع أمام أخي الذي يكبرني بعامين، كان قد نهض لتوه من نومه، رد بسرعة: (تقصد أننا نموت حين تنتهي أوجاعنا).
انقطع الحوار بيننا، لم أجد فرقا بين الجملتين أو الفكرتين، واحتلتني موجات الصمت طوال النهار..
حضر قائد المعسكر إلى المخيّم بعد شهرين، طلب رؤيتي مع مصطفى، استقبلني بحرارة، سألني عن مصطفى، فقلت إنه مريض، فأصر على زيارته.
مشينا في أزقة المخيم الضيقة، عبرنا شارعاً نحو مكان محاط بأشجار السرو، وقفت وقائد المعسكر أمام سكان الدار الآخرة، فسألني: (أين مصطفى..!).
خلعت نعليّ، مشيت أمامه فتبعني حتى وصلنا شاهدا أبيض جديدا ونظيفا، قرأ الرجل: (هنا يرقد مصطفى الخطاب، مات بداء اللجوء..). قرأ الفاتحة وغادر مهرولا.
حدثت مصطفى: (لا تقلق، سأعيدك أنت أيضا إلى البيت، هذا المكان لا يليق بوسيم مثلك..)
صابر
قبل بدء المغامرة بيوم واحد، حمل صلاح بندقية الصيد وانطلق وحيدا إلى البرية، كان يعلم أنه لن يصطاد شيئا ذلك النهار، قطع سهلاً مفروشا بشقائق النعمان ثم صعد جبلا برشاقة أرنب برّي، بيت الفتاة التي تعلّق قلبه بعينيها العسليتين يتربع على تلة في مدى نظره.
التقط أنفاسه واستراح على صخرة مواجهة لشباكها المحاط بالياسمين، نظر خلفه ودُهش كيف اجتاز المسافة في زمن قصير، تأخرت الفتاة التي لم يتعرف إلى اسمها حتى تلك اللحظة. تذكر سؤال مصطفى عن اسمها، تلعثم يومئذ وأجاب (ياسمين).
سألته وهو يرسل نبضه قبل قلبه إلى الشباك: (لماذا هذه الفتاة أيها العاشق النادر؟ وصوتها لم يشنف مسمعيك بعد، ورئتاك لم تتشبعا برائحتها..)، همس لي: (لأنها تسكن في مكان بعيد، أؤكد مع كل خطوة وحبة عرق وشهيق وزفير أنني أحتاجها، المسافة اختبار العشق ورهان الشوق، لم أتلكأ يوما في الوصول إليها، لم أفكر مرة واحدة في العودة..).
تعجّب مصطفى ذات يوم: (وهل ياسمين تحبك؟).
لم يجب وإنما أغمض عينيه وحضن صدره بذراعيه وسافر إليها، وإذا ترجّل خياله قال: (هل تذكر حين بحت لك بفكرة متوحشة يوم قررنا البدء في مغامرتنا؛ أن أسري إليها ليلا وأعوي كذئب عند الوصول، وقلت لي إن أباها سيخرج شاهرا بندقيته وقد يصيبك، هل تذكر بم أجبتك؟ تمنيت إصابتي بطلق ناري فأُسحب داخل بيتها، اتهمْتني يومها بالجنون، كنت سأسألها حين تقترب لتضمد جرحي: هل تحبينني؟ وسألتني: ماذا لو غضبت؟ فقلت لك: (لن تغضب فتاة من شاب جريح يصرح لها بحبه..).
لم تخرج الفتاة، اقترب من سور البيت، لامسه، شم رائحة غريبة تشبه عطر الغياب، دار حول السور، اقترب من البوابة الكبيرة، تجرأ فطرقها، أطلق رصاصة في الهواء، لم يظهر أحد، خلع نعليه، تسلق السور، وصل الشباك المقفل المحاط بالياسمين، كان البيت لا يزال فارغاً، غادره، وأطلق كل الرصاصات في الهواء، وأدبر عائدا ركضا بلا توقف حتى وصل المخيم.
بحزن: (تمنيت لو كانت تسكن ذاك البيت فتاة اسمها ياسمين، أصرح لها بحبي وهي تضمد جرحي..).
في اليوم التالي، قال لمصطفى: (ودعت قلبي أمس، سأزرعه بدلا من ياسمين، بقصيدة حب ونار..).