رواية شوقٌ مزمن للروائي أنور الخطيب ترد أمومـة فلسـطين إلـى ذاكـرة لاغيـاب فيهـا ولامغتصبون..

رواية شوقٌ مزمن للروائي أنور الخطيب ترد أمومـة فلسـطين إلـى ذاكـرة لاغيـاب فيهـا ولامغتصبون..

من مكتبة الفضاء .. «شوقٌ مزمن».. يـرد أمومـة «فلسـطين».. إلـى ذاكـرة لاغيـاب فيهـا ولامغتصبون..

ثقافة/  الأربعاء 30-5-2018  

بقلم
هفاف ميهوب

25323412_187415778505351_1226644574_n

عندما يعيشُ الإنسان فقداً يتفاقمُ برحيلِ الأحبة، وأقدسهم أرضه – أمُّه، وعندما يكون منفيّاً من وطنه-حلمه، إلى ألمه ودمعه.. لابدَّ أن يتحوّل، إما إلى فدائيٍّ تترسّخ صورته الأسطورية في أذهان الناس،

وإما إلى مبدعٍ يعيش عالمهُ المتخيّل أو المجازي الذي يُخضعه لمفرداتٍ، تستحضر كل الأحبّة الراحلين، وتردهم إلى عوالمه وحياته وذاكرته المتَّقدة بحبرِ الشوقِ والحنين..‏

إنه حبرُ «شوق مزمن» عاشهُ الشاعر والأديب الفلسطيني «أنور الخطيب» مع بطل روايته. «صلاح» الذي سعى فتيَّاً لأن يكون فدائياً. لكن، ولأن الرحيل عاد وداهمهُ بموتِ صديق حياته ومهمته، أقلعَ عن التفكير بأن يكون في أذهان الناس صورة أسطورية، وبقي ملازماً لأمّه التي كانت حتى بعد رحيلها، نبض ذاكرته الحيّة والأبدية.‏

حتماً، هو الغياب وفجيعته. غياب كلّ ماأحاله إلى شخصيَّتين. «صلاح» الذي ينطق بأمرِ واقعه وذاكرته، و«صابر» صدى صوته وحقيقته. ذاكرته، التي لم تتوقف عن استحضارِ صور وأماكن وحكايا أسرته، وصدى ذاته الاستثنائية، التي كانت تنضح بتداعياتها الرائية: «تنضحُ ذكريات لا أحد يرويها، وقد يأتي ساكنون جدد يضيفون إلى الذكريات أخرى، أو يمسحون القديمة بالجديدة، حتى تصبح الحروف تنهدات تتكرر»..‏

من هنا تنطلق أحداث الرواية التي بدأت، بتداعياتِ رحيلٍ عاشه «صلاح» قبل مغادرته لأسرته وبعد أن غادرها. الرحيل الذي رافقته فيه لغة «الخطيب» الشعرية التي خفَّفت ماحملهُ من أحزانٍ وما سمعه من أخبار فجائعية.. أخبارٌ، لم يكن أولها رحيل والده الذي ذكَّره نبأ موته، باليوم الذي عادَ فيه ليودّع والدته.. اليوم الذي جثا فيه أمام جثمانها، محتضناً كفّها ومرتِّلاً آياتَ فراقها: «سلامٌ عليكِ يا سلامَ روحي/ سامحيني/ لا شيءَ معي لعينيكِ المغمضتين/ لا طبيبَ لا دواء لا كأسَ ماء/ جئتُ من سفري المؤقّت/ لأشهدَ هذا الرحيل الطويل المعتَّق/.. هل أتبعكْ؟/ وددتُ لو يُشترى الغيابُ لاشتريتُ مضجعكْ/ لو أجنُّ حتى أخطفك/ لو تصيرينَ هواءً لأستنشقك».‏

نعم، هو وداعه لأمّه التي سكنتهُ ولم يغادره.. المُبتغى الذي جعله في حالةِ «شوق مزمن» لكلِّ من مزّق عنهم الرحيل، حتى وإن عجز عن تمزيقِ لقبِ «لاجئ» من جواز سفره، وعلى مدى تغرّبه الطويل.‏

أمه التي عاش أبد تنقّله ما بين حلمٍ وأمل، وبلد يقيمُ فيه ويطيلُ العمل وآخر يغادره على عجلٍ.. عاش، في حالة بحثٍ دائمٍ عنها، لأنها وطنه وأرضه وحدوده، وقافية وجوده. انعتاقه من ضجره ومزاجيته وعصبيّته، وكلّ ماجعلَ من الصعبِ إخضاعه أو فهمِ نفسيّته.‏

هذا هو «صلاح» الذي عمل في أكثر من مكان ككاتبِ مقالاتٍ وصحفي، وإلى أن ذاع صيته وباتَ معروفاً، كشاعرٍ وكاتبٍ وروائي.‏

هذا هو ولكن، بذاكرة الشاعر والروائي «الخطيب» الذي منح روحه ولغته لروايته.. اللغة التي كانت وكلَّما أخمدَ لهيب حرفها، تعودُ لتتَّقد فتقدُّ النص بنار ِغضبها.. كانت أيضاً، تضيئهُ بنبضِ شعري، خفَّف مافيه من ظلمِ وظلامِ المنافي.‏

هو أيضاً «صابر» شخصية «صلاح» الثانية، والتي استمدّت أنفاسها من أنفاسه، ورأت بما رآه إحساسه.. رأت، ماجعلها تارة تقمعه وتردعه، وأخرى تطاوعه ولا تمانعه.. تارةً، تغويهِ وتأمره، وبعدها تُمهله ليتفكّر فيما يصنعه.‏

إنه بالنهاية، الراوي الذي يقصُّ حكاية شعبه التي هي حكايته، ومُذ غادر مخيم صور في «لبنان» في العشرين من عمره، حتى عودته بعد أربعين عاماً يحمل ورقة تقاعده.. وثيقة السفر التي وصمته باللجوء، ومنعته من العمل والتملك واحتضان أمه-أرضه، والصلاة في قلبها بعد الاغتسال بها والوضوء.‏

منعتهُ من احتضان أمومةٍ عاد إليها بألقابٍ كثيرة. لاجئ، وافد، أجنبي، غريب، ولا أحد يتعرف أو يقرّ بأنه ابنها الحبيب. لا أحد لطالما، جميع أصحاب القيادات فيها: «تقاتلوا على الزعامة، ووقعوا اتفاقيات تعترف بعدوهم دون مشورة شعبهم. منحوا ثقتهم لقاتليهم.. صافحوهم وشاركوهم حتى حفلاتهم وطعامهم»..‏

هذا ما أوجعَه، وبعد يأسه وفقدانه الأمل من يقظةِ الأحياء الأموات وكل من لايسمعه، وبما اضطرّه لمخاطبة الأموات الأحياء من أبناء وطنه: «نحنُ في زمنٍ سادت بيننا الأشباح المتحركة على الأرض. تقتل وتذبح وتدمِّر وتُعلّق الرؤوس المقطوعة على حبالِ الغسيل، وتحرق الجمال في كلِّ شيء.. نحن متساوون في الزمن وإن سبقتمونا..».‏

يحادثهم، ويشكو واقعه العفن: «هناك أمراض لم أسمع بها من قبل، مثل داء اللجوء، سرطان الغربة، فيروس النكبة، التهاب الخيانة العربية، سفلس الأخبار، إيدز المؤتمرات، ذبحة التصريحات، الشوق المزمن».‏

يحادثهم، ويهدّد كلِّ من فكر بإزالة قبورهم، وطمس هويتهم وذاكرتهم. أيضاً، يُطمئنُ كلّ من فقدَ منهم عزيزاً أو مصيراً: «يعتقد الناس أنهم نقلوا أحبَّاءنا إلى هذا المكان، لكنهم لا يعرفون أنهم نقلوا أشجاراً مقطوعة، بينما الأشجار الحقيقية بقيت في البيت. عودوا تجدونهم وتتنفسونهم..».‏

لاشك أنها دعوته. دعوة الحاضر الغائب.. الغائب عن نفسه ولايكاد يعرفها، والحاضر في فلسطينه التي ردَّتها ذاكرته لأبنائها.‏

ردَّتها في رواية، وإن انتهت بدعوته لنبشِ القبور وإعادة الأموات إلى بيوتهم وأحبتهم، إلا أنها دعوة مجازية هدفها التذكير بضرورة الحفاظ على الهوية والإنسانية..‏

تنتهي الرواية، ولا ينتهي «الخطيب» من استحضار أمومة الأرض منها وإليها.. استحضارها ولو بحلمٍ مستحيل والدليل: «وجدت هذه الرواية على قبرِ «أم الفؤاد» التي توفيت بمرض الشوق المزمن. قال لي حارس المقبرة، أن رجلاً كشف عن سنواته الستين، في اللحظة الأولى لوصوله. حضر ومعه مجموعة أوراق حشرها في ملفٍ. طافَ بيوت الآخرة البيضاء، وأخذ يطرق على سطوحها بحنان، كأنه يوقظ أصحابها من نومهم.. وقف أمام شاهد قبر «أم الفؤاد» وخاطب الأموات: «أنحني أمامكم مقدّرا انسجامكم وتفاهمكم ووحدتكم وتعاطفكم مع بعضكم البعض. محبتكم وتناسيكم للصراعات والانقسامات، وتشبّثكم بهويتكم الواحدة.‏

راقبَ الحارس المشهد، فاقشعرَّ جسده. شعر فجأة بيدِ الرجل «صلاح» تمسّد قمة رأسه، كأنه يوقظه من النوم».‏

حتماً هو حلمُ الكاتب، بأن تعود الأوطان الراحلة.. الحلم الذي جعله يصحو من شوقٍ ليغيب في آخر عبرَ رواية ساحرة وساخرة.. ساحرة، في جعلنا ننتقل بين المنافي لنستمع إلى حكايا المشاعر الإنسانية، وساخرة من القيادات والخيانات والانقسامات العربية…‏

يبقى أن نقول: «أنور الخطيب» شاعر وروائي وقاص ومترجم فلسطيني.. ولد في «لبنان» وحصل على ليسانس في اللغات الأجنبية من جامعة «قسنطينة».‏

من أعماله الروائية: «الأرواح تسكن المدينة» «رحلة الجذور» «رائحة النار» «صراخ الذاكرة» «ندُّ القمر» «مس من الحبِّ» «وردة عيسى» «الكبش» ومؤخراً «شوق مزمن».‏

في الشعر: «ألفة متوحشة» «سيدة التعب» «مري كالغريبة بي» «كلّي عاشقٌ ونصفي غريب» «لست الذي في المرايا» و»آيتي أن أكلّم الناس».‏

صحيفة الثورة

http://thawra.sy/_View_news2.asp?FileName=64066687120180529201641

اترك تعليقاً