إسرائيل خسرت حربَ الصّورة وربحت حرب الواقع
بقلم: ندى حطيط
منذ انطلاقها قبل أكثر من قرن، كانت رؤية الحركة الصهيونيّة لطبيعة صراعها مع أهل فلسطين الأصليين حرباً شاملة: عسكرية واستخبارايّة واقتصاديّة وديموغرافية ولغويّة وعرقيّة. لكن سلاحهم الأمضى في تلك الحرب كان الإعلام، ولذا فهي ومنذ وقت مبكر وبالاعتماد على صحافيين ومالكي صحف وتلفزيونات متعاطفين مع مشروعهم الاستعماري نجحوا بفرض سيطرة تامة على صورة هذا الصراع في المخيال الغربي: فقُدّمت مأساة فلسطين وكأنها حرب المسلمين على اليهود، وتآمر تحالف من دول عربيّة فاسدة ضد لاجئين أوروبيين هربوا إلى أرض أجدادهم التاريخيّة، وانتصار للحداثة والتنوير على الظلمة والجهل حتى أصبحت الأخبار المنقولة في صحف العالم ولاحقاً تلفزيوناته من الأرض المقدسّة مجرد بروبوغاندا صريحة لا تشبه الواقع في أي من ملامحه.
لقد امتلك الإسرائيليون الصورة طويلاً واستعملوها لكسب تعاطف العالم وحماية تقدّمهم على الأرض بالقوة السافرة، بينما حوّلت تضحيات الفلسطينيين وبطولاتهم إلى إرهاب مقيت. هذه العناية المكثّفة بامتلاك الصورة رافقت مرحلة نهاية القرن العشرين التي غيّر فيها الإعلام التلفزيوني الغربي طبيعة خبرة البشر بالصراعات من خلال الصورة التلفزيونيّة حتى أن الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بودريار كتب ثلاثية مقالاته المشهورة عن حرب الخليج عام 1991 عنونها «حرب الخليج لن تحدث» ثم «…. لا تحدث» ثم «… لم تحدث» كناية عن تفوق الصورة التلفزيونية المشغولة بعناية في صناعة الحدث بغض النظر عن الوقائع الحقيقّية على الأرض.
لكن مزاجاً ما تغيّر خلال الأسابيع القليلة الماضية عشية احتفالات الكيان بالذكرى السبعينية لإعلان استقلال دولة إسرائيل عام 1948. لقد بدا أن الأخيرة رغم ترسانة داعميها الهائلة في كبرى قنوات الغرب الإعلاميّة كلها من دون استثناء قد خسرت وللمرة الأولى حرب الصورة لينتزعها الدم الفلسطيني المسفوح على أطراف غزّة وكأنه يمتلك صوته وللمرة الأولى منذ أن بُحّ واستُبيح.
مسيرة العودة
لم تكن مسيرة العودة التي نظمتها حركة حماس عبر حدود قطاع غزّة عشيّة الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينيّة عام 1948 – والتي تحتفل بها إسرائيل في ذات الوقت عيداً سبعينياً للاستقلال (؟) توّج استثنائيّاً هذا العام بتنفيذ قرار السلطات الأمريكيّة نقل سفارتها إلى القدس – لم تكن مناسبة ارتجالية، بقدر ما كانت قراراً اتخذته إدارة الأمر الواقع في القطاع لإطلاق صرختها في وجه الجميع: في وجه الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينيّة، وفي وجه الحصار الجائر على القطاع الذي تتعاون السلطات الإسرائيليّة والمصريّة على فرضه، وفي وجه سلطة رام الله التي تشارك بدورها في حصار القطاع من خلال وقف رواتب الموظفين، وفي وجه العالم الذي أدار ظهره لمأساة الفلسطينيين وتلهّى عنهم بمغامرات ترامب وتغريداته الهزلية. لم تمتلك حماس للحقيقة خيارات كثيرة لمواجهة كل هؤلاء سوى الضغط عليهم من خلال دماء الشهداء والجرحى، لعل وعسى رائحة الموت توقظ الجميع من سباتهم . مواجهة مسيرات الفلسطينيين الموعودة بستار من رصاص السلطات الإسرائيليّة الحيّ في بث مباشر على شاشات العالم لم يكن بدوره قراراً محليّاً اتخذه قائد القوات الإسرائيليّة في غلاف غزة بقدر ما كان استراتيجيّة على أعلى مستويات اتخاذ القرار في دولة الكيان العبري لتكريس الأمر الواقع وإخماد أي حلم فلسطيني بالعودة من خلال مسيرات شعبيّة حافلة ربما إلى الأبد.
بين هاتين الاستراتجيتين العنيدتين: استراتيجيّة اليأس في مواجهة استراتيجيّة الجبروت، فُجع العالم وعبر سلسلة مسيرات استمرت لستة أسابيع بمشاهد مصورة سواء عبر كاميرات التلفزيونات والصحافة العالميّة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمشاهد لشبان وشابات فلسطينيين يركضون نحو بلادهم ببسالة كوْنٍ بأكمله عزلاً من أيّ سلاح – ربما غير علم فلسطين الذي يقض مضجع المحتل في كل آن – لتصطادهم بالألوف بنادق الجنود الإسرائيليين المتحصنين في أبراج حراسة شاهقة -كما لو أنه موسم لصيد العصافير العائدة إلى فلسطين. لم تبق محطة تلفزيونية في العالم أجمع لم تعرض مقاطع لتساقط الشهداء، ولم يخلُ برنامج من مناقشة حادة بشأن تلك المشاهد المأخوذة من عرس الموت، واضطرت الصحف لاختيار نماذج من فوتوغرافيات المصورين الفلسطينيين الذين قتل الجنود الإسرائيليون بعضهم عمداً وبدم من صقيع.
فأيّ حصاد كان لهذي المواجهة؟
رغماً عن الصحافة الجمهور تعاطف مع الضحيّة الأمر الأكيد انّه ورغم كل انحياز الإعلام الغربي لا سيّما المرئي منه – وجزء كبير من إعلام الدول الأخرى ومنها دول عربيّة – شبه التام لمصلحة الرواية الإسرائيليّة للحدث، وتوظيف هذا الإعلام لأدواته في الخداع سعياً لتشويه الحقائق سواء في طريقته لصياغة الخبر التلفزيوني (قُتل ثمانية وأصيب عدة مئات – دون أن يشار إلى القاتل)، أو في مساواته هذا القاتل بالقتيل (اندلاع المواجهات والصدامات الحدوديّة)، أو في نوعيّة الأوصاف المثيرة للعواطف التي أطلقها على أفراد الطرفين أو أفعالهم، مع الاستنساب المخل بأي موضوعيّة في عرض الأخبار والتركيز على ال(الاعتداءات) الفلسطينيّة على الحدود – التي لم ترسم قط بناء على رغبة التوسع المعلنة عند إسرائيل منذ إعلان قيامها -، الأكيد أن أغلبية حاسمة من مستهلكي هذه المواد الإعلاميّة لم تمتلك سوى التعاطف مع الدم الفلسطيني المتطاير في مهمة إيقاظ العالم: لقد أذهلها هذا التقافز على الموت وكأنه رحيل إلى الحياة وليس عنها، وهذا التحدي الأسطوري للبنادق التي وكأنها لم تعد تُميت وهذا الالتصاق الأبدي بحلم العودة ، ولا سيّما بعد أن تسربت مقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي عن شهداء من ذوي حاجات خاصة ونساء وعجائز وأطفال ورُضع بين مجموع الشهداء اليومي، في الوقت الذي تسربت فيه تسجيلات يسمع منها صوت الجنود الإسرائيليين وهم يتضاحكون ويتنافسون على كيفيّة وسرعة إسقاط الضحايا بنيران بنادقهم كما لو كانوا مجتمعين على لعبة فيديو مشبعة بالعنف لا على أرواح بشر يتنفسون ذات الهواء.
لقد انتزع الجانب الفلسطيني في غزّة – وإن بثمن باهظ من دماء غالية – فضاء الصورة– فضاء الصورة وارتداداتها : على ال بي بي سي وال سي سي إن وسكاي تي في وشاشات العالم جلها فأفسدت إلى حد بعيد مزاج الاحتفال بسبعينيّة الكيّان، ونغصت على بنيامين نتانياهو وضيفيه إيفانكا ترامب والسيد زوجها مشاركتهما في حفل افتتاح السفارة حتى كادت أخبار تساقط الشهداء على حدود غزّة أن تكون توأم أخبار الحفل المشوؤم في القدس، لا يذكر أحدهما إلا لصيقا بالآخر. هذه كلها بالطبع – إذا تجنبنا الحديث عن كلفة الدم المسكوب – اختراق على الصعيد الإعلامي تكفلّت به الصورة لكنه سُجن في فضائها وحسب. بينما في المقابل لم تحقق المسيرة إنجازا فعلياً على الأرض، وازدادت معاناة مواطني القطاع بسبب الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى، كما لم تندفع أي قوة عظمى لاتخاذ إجراءات عقابيّة بحق القتلّة. في ذات الوقت فإن الضفة الغربيّة تئن تحت سيطرة مُحكمة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية على مجريات الأمور _ بالتعاون مع السلطة_. وقد تمّ بالفعل الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان من قبل الولايات المتحدة، وشاركت في احتفال افتتاح مقر سفارتها هناك ما يزيد عن خمسين دولة صغيرة، ليتكرس وضع فعلي قائم منذ حرب 1967، بينما تأكد بلا رجعة انقسام الحركة الوطنيّة الفلسطينية إلى سلطات محليّة متنازعة على تقاسم العوائد والضرائب والرواتب. وحتى ألاعيب جهود السلام المزعوم لم تعد ذات صلة هذه الأيام بعد الانكفاء العربي التام فلم يترحم عليها أحد. لقد اصطدمت العصافير العائدة بحائط الواقع الهائل الذي شيّدته الصهيونيّة خلال العقود.
الفلسطينيون هُزموا مجدداً لكنهم باقون
انتهت مسيرة العودة إذن إلى انتصار استثنائي للضحيّة في فضاء الصورة وحققت اختراقاً تلفزيونيّاً لوجدان العالم ، لكن الإسرائيليين فرضوا هيمنتهم التّامة على أرض الواقع ولم يعد لدى الفلسطينيين اليوم – بتآمر العالم والأشقاء معا- سوى تجرع مرارات هزيمتهم الأحدث، وإن كان حكماء بني صهيون حصلوا على توكيد آخر وهم في طريق تخطيطهم للاحتفال بمئوية الكيان: الفلسطينيون هُزموا، لكنّهم يتكاثرون ولا ينسون حلم الوطن المفقود وهم لن يتبخروا في الفضاء، وبغض النظر عمن سيكسب حرب الصورة المقبلة فإن الكيان سيجد بإسقاطه الجزء الفلسطيني من الواقع، إنه ذاهب حتماً إلى مئوية ستكون مغلّفة بمزيد من الدّماء.
إعلامية لبنانية تقيم في لندن
نشر هذا المقال في صجيفة القدس العربي
رابط صفحة الكاتبة على الفيسبوك
https://www.facebook.com/nada.htait.3