مسرح مقفل وإبداع مفتوح..دراسة نقدية لقصيدة ” مسرحي اليوم مقفل” للشاعر الفلسطيني الكبير أنور الخطيب

مسرح مقفل وإبداع مفتوح..دراسة نقدية لقصيدة ” مسرحي اليوم مقفل” للشاعر الفلسطيني الكبير أنور الخطيب

مسرح مقفل وإبداع مفتوح
دراسة نقدية لقصيدة ” مسرحي اليوم مقفل” للشاعر الفلسطيني الكبير أنور الخطيب
بقلم / يوسف السحار

19679345_1881617342160069_3672220427354341524_o

مذ قرأت قصيدة ” مسرحي اليوم مقفل” للأديب الفلسطيني أنور الخطيب في صباح أمس، حتى قررت ألا أطيل السرد والحديث في معالم كينونة هذا الشاعر الكبير، فلقد قرأت وقرأت عن رزانة شخصيته وجمال وصفه ما يملأ خزائن القلوب، ويشوقنا لقراءة المزيد من هذا الشاعر وعن هذا الشاعر، حتى بتنا نتوق لقراءة كل جديد له، ثم ننتظر ردود الأفعال وجمال الكلام ممن يقرؤون من الأصدقاء.
وأجزم أن لديه ثلة قديرة من الأصدقاء، من الذين يقرأون النص بأرواحهم وقلوبهم قبل عيونهم، فيغنون النص والتجربة ككل بأراءهم ومداخلاتهم الراقية فلشاعر ولجميع أصدقائه كل الحب والتقدير
ما جئت به اليوم هو دراسة أولية: تحليلية_ نقدية لقصيدة: مسرحي اليوم مقفل، آملا من الله _ عز وجل_ أن أكون وفقت في الطرح والتحليل؛ كي تنال مكانتها بين جميل الأعمال وخالدها.

” مسرحي اليوم مقفل ”
عنوان مدهش رغم بساطة التركيب، طالعنا به الشاعر أنور الخطيب منذ البداية، وكأنه وضع المتلقي // القارئ أمام دوامة من الأسئلة في بحر قصيدته المطولة،
فعن أي مسرح يتحدث الشاعر هاهنا، ولماذا اليوم يغلق، ومن ذا الذي أغلقه، وهل سيفتح من جديد ؟؟!!
أسئلة مشروعة لأي قارئ أراد الغوص في أعماق النص
فهل يمكن له أن يجد الإجابة والجواب لكل سؤال يضرب يافوخ الرأس بعد تفكير عميق؟؟!!
حاولت وحاولت؛ كي أصل لإجابة عن هذه الأسئلة، ولأسكن ذاك الضجيج الذي يؤرقني ولربما يؤرق أي قارئ لهذا النص الشعري.

قد يكون المسرح هاهنا هو مسرح الحياة الذي كان شاهدا على الكثير من الأحداث والمواقف التي رآها الشاعر وتابعها بكل دقة وعمق، حتى أرقته وأتعبته؛ ليعلن في هذا اليوم عن إجازة // استراحة مقاتل لأي من الأحداث والمواقف المستجدة في كل يوم وفي كل لحظة بالنسبة له، أحداث صعاب ومواقف جسام لا يمكن لأي منطق أن يستوعبها، فالقهر والظلم، والسفك والقتل، والتشظي الكبير لأمة كانت منارة وبيرق لكل الحضارات في التقدم والرقي، لكن ….

سأقرأ النص على وفق ثلاثة عناوين رئيسة، على اعتبار أن الشاعر قد فصل بينهما بعبارة :” مسرحي اليوم مقفل”، والتي تدور حولها القصيدة

المرحلة الأولى: وصف وصمت
يقول الشاعر في هذه المقطوعة واصفا حالته السكونية التي سيطرت عليه في هذا اليوم // يوم إغلاق المسرح :
” واقف خلف منصة
لا قصائدَ على مائدة الشعر
لا بوحَ شيطانة هاربة من وادي الظلام
لا سيداتٍ يسرّحن سحرهن في مرايا العقيق
لا مراهقين يمارسون هواية التصفيق
واقف بين صمتي واعتلال الطريق
وللعنة ما، قررت فتحَ بعض المغاليق
فوسْوَسَتْ لحتفي الحروف
لأقرأ ما قالت الكعبة للمنجنيق،
ارتبكت، وصرت في مرمى الحريقِ
وكدت أجثو: يا نارُ كوني ..
فتذكرت: مسرحي الآن مقفل”،

في هذه المقطوعة تسيطر على الشاعر الخطيب حالة سكونية وصمت رهيب يخيم عليه، حتى عكس ذلك على صوره المستدعاة هاهنا والمكتفي خلالها بوصف الأشياء دون حركتها، قد يكون لهذا الصمت أسباب وعوامل أوصلت الشاعر لمثل هكذا حالة، لكن وفي لحظة ما من المكاشفة والتصريح بين الشاعر وذاته، نجده يتجرأ على الواقع وعلى حالته الصامتة الساكنة بإقراره فتح بعض المغاليق، ترى ما هي المغاليق التي قرر الشاعر فتحها ها هنا ؟؟!! حتى اعتبرها الموت // الهلاك الذي يصل إليه عبر حرفه؟؟ وقد رأى الكعبة // رمز القداسة والمنجنيق// رمز لآلة الحصار والنار التي كانت مستخدمة في قديم الأزمان.
ترى ما الرابط بين الكعبة والمنجنيق في هذا النص؟؟!!
في تقديري فإن الخطي، ذلك الأديب المسلح بالثقافة الواسعة والموسوعية قد أعادنا لحادثة ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق على يد الحجاج بن يوسف الثقفي إبان الخلاف الذي نشب بين الزبير بن العوام وعبد الملك بن مروان في العصر الأموي، وهي إشارة من الشاعر للخلاف الطائفي والمذهبي الذي أرق وما زال يؤرق الكثير من البلدان العربية للأسف الشديد ، هذا الخلاف الذي أربك الشاعر وأربك كل غيور على هذه الأمة، حتى دعا ودعونا بأن تكون النار ..، ولعل هاتين النقطتين اللتان أنهى بهما الشاعر كلامه لإشارة على خوف تملك الشاعر من هذا الخلاف، حتى أنه لم يستطع التفوه بما يأمل أن تكون عليه هذه النار، ليتدارك الأمر بالقول:” مسرحي اليوم مقفل”.

المرحلة الثانية: المواجهة والتصريح وتتمثل في:
والعيون تحملق بي
في انتظار ما يَدُلُّ لا ما يُدلّل
في انتظار ما يشير بإصبعين
للقتيل المقتّل
لدي كل الكلام واللا كلام
وقلبٌ منزّل
يرتل ما لا يرتَّل
مفعم بالخيانة والعشق
والقليل الضليل والكثير المضلَّل
تسللت نحو قلبي..
وجدته يلعب الشطرنج
يبدل خيلا هنا بقلعة هناك
يبدل نبض الحبيب بنبض الغريب
يفرش في الشرايين ما تيسّر من وطن ترمّل
انطلقت كباشق يمارس العشق
مع من تحِلُّ ومن لم تُحلّل
وقلت بعد ذاك الخراب المدلّل:
لأُلقي خطبة للفراغ المبجل
قد يقود الكلام إلى غريبين في شارع مبلل
إلى سائرين في قطار معطل
ثمة كأس تراودني منذ ستين مقتل
يرفعها الذاهبون في غيّهم
يرفعها العائدون من غيبهم
وأنا بين هذا وذاك رأسٌ معطّل
وفكرة، تكتسي ماءها
ساشربها الآن دفعة واحدة
بِصِحةِ الداخلين لحفلة زار ومنجل
بصحة المنتظرين في معقل تعقّل
بصحة من تسرب مني ولم يخنّي
من تسلل لي كالملاك
لأقتُلَه أو لأُقتَل
ففي الحالتين أمضي إلى حيث لعبتي:
كأس مليء بدمي
وكأس مليء بحنظل،
حروف تمارس البغي
أمام وجهي المغفّل،
لم يهدِني الوقت شالا لأستر أحرفي
هدّني العريُ والعجزُ لكنني اكتشفت:
مسرحي الآن مقفل.
في هذا الجزء الأكبر من القصيدة نجد الشاعر وقد بدأ فعلا بفتح المغاليق التي أشار إليها سابقا وكأنه أراد أن يتحدى كل العيون التي حملقت به متهيأة للجديد الذي يريد الشاعر قوله في هذا النص، والذي يعتمل قلبه المنقسم على نفسه ما بين خيانة وعشق // ضليل ومضلل// مراوغ لا يثبت على رأي// لا مكان فيه لأي مبدأ أو قرار …… إلى آخره من التناقضات والمتناقضات التي أرهقت كواهلنا واوصلتنا إلى سقوط ليس له قاع، وما زلنا نسقط ونتساقط في كل يوم، بل وفي كل لحظة، ولعل هذا إشارة من الشاعر لحالة التيه التي بتنا عليها الآن، فلا وجهة محددة المعالم؛ كي نسير بنحوها، ولا أفق ظاهر للعيان يرشده لبصيص أمل قد يشق ظلام العتمة المدلهم.

وبعد كل هذا الخراب وذاك الدمار الذي يرعاه الكثير من أبناء عروبتنا،، يجد الشاعر نفسه وقد ألقى بخطبة لحضرة الفراغ في حضرة الفراغ، يردد فبها آلامه وأوجاعه التي تسكن فؤاده منذ ستين سنة// مقتل في إشارة لمقدار الألم والوجع الذي وصل بالكثيرين حد الموت والقتل.
هذه الخطبة التي تشتكي ضعف الصديق، وخيانة القريب، وخذلان الحيب وغدر العرب الذي نراه في كل يوم. وفي كل هذا يجد الشاعر نفسه // المواطن : الفلسطيني // السوري // اليمني وغيرهم وقد تعطل رأسه وغيب دوره أمام من تدخل وتداخل بيننا متسربا عبر عيوبنا ونذوبنا التي كثرت على مر الأزمان .
وأمام كل هذا يجد الشاعر // المواطن نفسه أمام مصير حتمي لا بد منه وهو مسلسل من القتل والفتك ومرارة تعتصر قلبه حينما يغدو لعبة بين هذا وذاك، ولا سبيل أمامه سوى حروف يرصها ببعضها البعض علها تستر سوءته وسوءة حياته التي أبانها الأشرار بفعالهم وسلوكهم، وهنا يتمنى الشاعر أن لو كان بين يدية شال // موقف مشرف يستر به تلك السوءة، لكنه أدرك مجددا بأن مسرحه الآن مقفل.

المرحلة الثالثة : صمت وذكريات
لا أحد يقدمني للكراسي
فالكراسي منازل تتنزّل
ثمة لعبة غامضة منذ ولدت
من محفلٍ إثر محفل
لا أحدَ يصفق للاكلام المجوقل
ثمة صمتٌ منذ أبجدية التيه
والكر والفر، عبلة والمهلهل
صمت تناسل فرّخ فخر قبائل
شعرا يقبّل كف الولاة
إذا المال أقبل
صمت تنحنح صار حدودا نشيدا ومعقل
صمت تجشأ، صار حديث الحداثة،
ما بعد بعد الحداثة
صار للصمت مفردات
تقول ما لا يقوّل
تذكرت لعبتي والناسَ والحروفَ والكراسي
والمفرداتِ والدفوفَ والوحيَ المؤجل
وفجأة، قدمني هارب من قومه
كانوا يصنعون آلهة ويأكلونها
فقلت: لخولة أطلالٍ ..
ثم قدمني هارب إلى قومه
كانوا يصنعون آلهة فتأكلهم
فقلت: آن للفارس أن يترجل!
لم يصفق القادمون نحوي
ولا الخارجون مني
لم تستح الجهات
لم تشكل جملةً مفيدةً لهذا الشتات
تذكرت في غمرة العبث المحلَّل:
مسرحي اليوم مقفل.
من جديد يكتشف الشاعر مزيدا من الفراغ والتيه والحيرة التي تسيطر عليه، فالصمت بات سمة العصر ومتلازمة التيه الذي نحياه من عقود وعقود .
وبات له مفردات وألفاظ خاصة به في حضرة الحداثة وإفرازاتها، وفي حضرة هذا الصمت وجدنا الشاعر يحن للعبته ولأناسه وحروفه ولمفرداته ودفوفه ووحيه المؤجل.
وفي حمأة هذا الحنين يجد نفسه وقد عاد لعصور ما قبل الإسلام، حيث الأناس الذي يصنعون آلهتهم ويأكلونها، عبر تقديمه من قبل هارب من قومه، ثم ما لبث وأن عاد للحاضر المعاش، حيث الأناس الذي يصنعون الآلهة //الطواغيت // السلطويون // نازيو العصر الحديث فيأكلونهم على وقع الرقص واحتساء الخمر والقهقهات ، عبر تقديمه من قبل هارب لقومه مستنهضا إياه:” آن للفارس أن يترجل “

وفي حضرة كل هذا لم يجد من يصفق ولا من يهلل وهي إشارة لاستمرارية الحالة السكونية التي تسيطر على الشاعر والمنعكسة على جو القصيدة من البداية وحتى النهاية، والدالة على حالة التيه والضياع التي بتنا نحياها في كل يوم وفي كل مساء .

اترك تعليقاً