من مكتبة الفضاء.. «آيتي أن أكلِّم الناس».. لـ «يرتعش الريحان.. حول قامة الشهيد»
ثقافة
الأحد 11-2-2018
هفاف ميهوب
«اقفلوا بابَ اللغاتِ فَلا أراني/ ولا يراني أحد/.. الحرفُ طوعَ مِحنتي/ خاشعٌ إذا ارتدَّ، ماردٌ إذا سَجد.. ولا تقولوا/ إنني أهوى التصَعلُكَ في السماواتِ العُلى/ أو إنني الفردُ الصّمد..
آيتي.. أن أكلّمَ الناسَ من شرفةِ الضوءِ/ أبعثُ فيهم دمي/ أسَرِّب صوتي لطفلٍ/ تلعثمَ في يومِ جمعةٍ/ تنهَّدَ في يومِ أحدْ».
كلماتٌ، هي تراتيلُ شاعرٍ اضطرّتهُ الغربة التي عاشها وتلظّى بين أوجاعها، للبحثِ عن وطنٍ هو القصيدة التي ترتِّلْ: «آيتي أن أكلِّم الناس».. ديوانه، الذي ألقى «شال الحروف» الذي فيه عنه، وإلى أن عرَّف بأنه: «أنا الشاعرُ الغريبُ المُغَرَّب/ العاشقُ المُعشَّق/ المُعذَّبُ حدَّ الطرب/ أدوزنُ ليلي بريشةِ نجمةٍ شاعرة/ تنثرني على قميصِ نومِ القصيدِ/ بلا قافيةٍ ولا تفعيلة/ وإنما كخمرةٍ.. من كأس روحها تنسكب/..
هكذا عرّف عن نفسه، وبعد شعورهِ بأن «خيول اللهفة» التي تصهل في أناهُ، قد استدعتهُ محملاً بالغضب إلى تلال التعب.. أيضاً، إلى «ساحة العطر» وليكتب، «ما سيكتبهُ الشعراء في العشق لقرنين» وعن «امرأة تكنزُ غربتها منذُ عمرين» وتكتبهُ «بحبرِ البلادِ على غربتين»….
شعر بذلك، لأنه الشاعر الذي لم تتمكن كلّ فضاءاتِ الاحتمالاتِ التي حلّق بها وفازَ بقلبها، من ردّهِ عن يأسه الذي استدعى قولهِ: /لم يعدْ في العمرِ مايقبل التأويل/ فافتحي رحميكِ وضمّي رسولَ «الجليل/ كأنَّكِ الآنَ أنجبتِهِ من رحمِ المستحيل/ ليحتفي بأنثاكِ قبلَ الرحيل/ ويرسمُ عينيكِ في دربهِ/ كالعاشق المُعشَّق/ أو كالقتيلِ الضليل»..
كل هذا، أطلقهُ الأديب والشاعر الفلسطيني «أنور الخطيب» الذي آل على حرفه، إلا أن يبقى متعبِّداً في قلب القصيدة التي بشّر كلّ من تعامى أو ضلَّ عنها، بأنها وكما رتَّلها: آيتي.. أن أوقظ الطفلَ في كهفِهِ/ وإنْ لم يَفقْ/ أوقظُ الكهفَ في طفلهِ/ وإن لم يفق/ أعيدُ الطفلَ إلى رحمهِ/.. فاقفلوا باب اللغاتِ/ في انتظارِ بَعثهِ منَ الشتاتِ/ مبتهلاً: مددٌ يا أنايَ مَددْ»..
لاشك أنه الديوان، الذي سكبَ فيه مالديه من آلامٍ سببها ضياعهِ ومعاناته وغربته ومنفاه وما استشعرهُ يُلهبهُ مّذ غادر «مسقط الجباهِ».. الديوان، الذي أشهرَ فيه قصيدته، بوجهِ كل من قصدهُ بصرخته: «أحدٌ ما/ يمرُّ في قهوةِ الصباح/ يستبدلُ الغناءَ بالنباح/.. أحدٌ ما/ يفاوضني على ذاكرتي/ يمنحني مقبرةً مقابل بيتي/.. أحدٌ ما/ كلّما قابلتُهُ/ اكتشفتُ أنني قتلته/..
تلك هي صرخة «الخطيب».. الشاعر الذي أرادَ الكلمات حياة. أيضاً، الذي حمَّل قصيدته كل مافي ذاكرته ويستشعرهُ «محض ظلالٍ» تُطهِّرهُ مما آلمهُ لدى تمعّنهُ في «العتبات».. «عتبة الغياب» و«عتبة العشق» اللتين همستا في جموحه، علّه يترجّل عن صخبِ روحه: «قالت العتبات: قف، واخلع وجهيكَ/ أنتَ في حضرة الغياب/.. قلتُ للصوتِ المغيَّبِ: ما الغياب؟ فغاب/..
قالت العتبات: قف، واخلع قلبيكَ/ أنتَ في حضرةِ الشوقِ/.. قلتُ للصوتِ المعشَّقِ: ما الشوق؟ فانشق»..
لاشكَّ أنها عتبات، سعى لاجتيازها وحصارها جميعها، إلا أن ماأعياهُ منها، ألمهُ الذي قال عنه: «ألمٌ أبديٌّ يتحصَّنُ في نبضين/.. نبضٌ، حين سُحبتُ إلى سجنينِ/.. نبضٌ، أعلم يشرقُ من أين/ وأجهل مسراهُ إلى أين /.. ككناريٍّ يربضُ في العتمة/ معصوب الصوتين»..
أيضاً، لم يتمكّن من حصارِ ماكان يعتريهِ، ويشعرهُ «كلام ثقيل».. «أثقلُ من قافيةٍ ممسوسةٍ على ناقةٍ ضائعة في الظلام، ومن رأس قديسةٍ عاشقةٍ لا تنام».. كلامٌ ثقيلٌ، يردُّ عليهِ بما يُلقيه: «سألقي عليكَ حرفاً، يُجاهرُ ثم يقامر ثم يسامرُ ثم يغادر/.. يتركُ السامعينَ في حيرةٍ، يتساقطون/.. سأقرأ من سورةٍ ليست في كتابٍ/ من سفرٍ تناقلهُ الرواةُ، وكان في كلِّ عنعنةٍ/ يفرُّ إلى الغياب/..
هكذا كان «الخطيب» يردُّ على من يتَّهم قصيدته بأنها «أخذة في التشهّي».. يردُّ، ويزيدُ إن زادَت التهمُ عن الحدّ: «أنا انعكاس النار في جسدي» وقد «قيلَ لي»: «أنت خارجٌ عن لغاتِ القبيلةِ/.. قلتْ: لم أكن طيلةَ منفايَ حرفاً يُشترى بشوكِ العطايا/..
شدّني من خافقيّ نشيدٌ/:أنا انعكاسُ النارِ في جسدي واختناقُ الوردِ في لغة الصبايا/.. نبيٌّ قلبي أنا ووحيٌ للخلايا/..
بالتأكيد، هو الغياب نحو السراب، وهواهُ الباقي في فلسطين.. غصةُ الآهِ التي التهمتْ بمفردات توقها، ما أسقطَ بفائها، حتى الأوسمة والنياشين.
« فاءُ.. الفؤادِ المتيّم بالفقدِ/.. فلٌّ تبرعمَ فوقَ فمٍ/.. فاحَ في تجلّي الروح/.. ولامٌ.. تلوم تلال الخلايا على بعدها/.. وتلمُّ السفوح/.. وسينٌ.. سنابكُ خيلِ اللسانِ استلَّ صهيلَ الجروح/.. وطاءٌ.. يطنُّ بطين القرى، يطالُ ظلالاً تطولُ/.. توطِّنُ طيرَ القلوبِ طيّ الحقول/ وياءٌ.. يمامُ اليتيمِ يئنُّ بيقظة يرغول يافا/.. ويمشي بيمِّ الحبيبة حتى يواري النزوح/.. ونونٌ.. نوّار نهد النهار، تنهّد/..
كل هذا وسواه، في «آيتي أن أكلّم الناس» حيث القصائد التي تعمّدت بقلبِ ووجدان ومشاعر وعقلِ شاعرها، والتي استشعرناها تتعبْ، تعتبْ، تغضب.. تثملْ، تخجل، تأمل.. تتمرّد، تتجدّد، تتفرّد.. تعشقْ فتتعتّق وتتعشّق.. تحكي، تشكي، تبكي.. نلملمُ قطراتَ الحزنِ عن حرفها، فـ «لأول مرةّ» يرتعشُ ريحانها: «يرتعشُ الريحانُ في سيرةِ الجنازاتِ حولَ قامةِ الشهيد/.. ويبكي/. وهذا، ليسَ من علاماتِ أي شيءٍ إنما بكى الريحان في المهد..
لأوّلِ مرّة/ ترحلُ الآياتُ من سيرةِ الابتهالات/.. يصبحُ الترابُ «زينة الحياة..»..
قرأنا أيضاً، ما كان كـ «برق الغواية» تستدعي شاعرها إلى «أبواب القيامة» ينتظرها فتسأله: «ألمْ تتعب؟».. يجيب: «ياأنا».. «يا أنتِ».. وماذا بعد؟».. «اجرحيني».. لقد «تعبت»..
باختصار.. الديوان عبارة عن قصائد تسبِّح باسم الوطن، حنجرة الحرف والقلب والوجدان.. قصائد حبٍّ يقتفي أثر قلبِه، فيؤلمه أن يجده «ذاهب إلى النسيان».. قصائدٌ، يختمها «الخطيب»: يامن قرأتموني كفى ولا يكفي، فـ «سامحوني».
«سامحوني» ليسَ في جعبةِ القلبِ امرأة أزيِّنها بالعقيق/ ثمَّةَ من يقصفُ الصور الشعرية بالمنجنيق/ ويدّعي أنه صديق..»…
صجيفة الثورة السورية
http://thawra.sy/_archive.asp?FileName=85647637720180210220623