العاشق الغريب
الأحد، 26 نوفمبر 2017 01:30 م
حورية عبيدة تكتب:
شاءتُ الأقدار أن ألتقى بهما معاً فى أحد المجالس الأدبية العريقة والراقية؛ مع صُحبة من المبدعين والمثقفين والنُقَاد؛ هما شاعران كبيران يُشار لهما بالبَنان، سمعتُ عنهما ولم أكن التقيتهما وجهاً لوجه من قبل، حين بدأت الجلسة؛ وبتلقائية شديدة طلبت من الحضور أن يقدمَ كلٌ اسمَه ونُبذةً بسيطةً عن نفسِه؛ نَظراً لوجود بعض الضيوف الذين قد يجهلون هوية المتحدث وقدرَه.
فإذ بواحدهما يغضبُ وينظرُ لى قائلاً: «ألا تعرفِيننى؟! سَلِى عنى ليدلوكِ»، غَمرنى حَرجٌ شديد، وعجزَ اللسان وتمَلكنى الحَياء، وكدتُ أتخذُ قرارى بالامتناع عن حضور ذلك المَجلس ثانيةً.
يتصل بى بعض الأصدقاء مِن مُرتادى تلك الجلسة الأدبية؛ يحثوننِى على الحُضور وألا أُلقى بالاً لما حدث، ومن باب المجاملة؛ صدَّقتُ ماقالوه لى مِن أن وجودى يُثرى اللقاء؛ حزمت حقائب القلق وأغلقتها، وعاودت الكَرَّةَ، وكعادتى دومًاً ذهبت مبكرًا، وتوالى قدوم الشباب، يكللُهم الشَّغف لعرض إبداعاتهم الأدبية والفنية علَّهم يفوزون باستحسانٍ أو نقدٍ يُضىء لهم دربًا عَزموا على المُضى فيه بمهارة، ثم انتبهت لقدوم الشاعر -ثانى الاثنين- وهو قامةٌ سامِقة باسِقة فى مجال الأدب والإعلام؛ رأيتَه يدْلفُ لمُنتدانا بسمْته الهادئ الوقور، يحمل بيده بعض إصداراته الشعرية والروائية؛ ثم يضعُها بتواضعٍ جَم على طاولة تتوسط القاعة، ويتجه لمقعدٍ شاغرٍ بين شباب المبدعين، ولم يُصر على أن يجلس بين الكبار، مددتُ يدى لكتبه؛ أرنُو بناظريّ إليه مُتسائلةً: «ممكن آخذُ نسخةً لى؟» يُومئ برأسه مُتمتِماً فى حيَاءٍ: «هى لكِ ولمنْ أراد».
الآن تكتمل لدى صورة الفلسطينى «أنور الخطيب»، الذى لا يُشبِه إلا ذاته؛ بعد أن سكنته جنية أو حَليلة وادى عبْقر، فأضحى الشاعر والروائى والقاص ذا الرؤى الفلسفية الخاصة، والإعلامى والمترجم؛ عاشق الحياة والجمال والوطن والمرأة، موسيقار الكلمة والحرف، حين يلفتُنا بتواضعه ودمائة خُلقهِ وإنسانيته، ليصدُق القائل بأن «الشعراء هم الناس حقاً»، لذا لم أًدهش من عنوان أحد دواوينه: «كُلِّى عاشق ونِصفى غريب»، نعم هو العاشق لألق الكلمة، وسمو الروح والقيمة والمشاعر، ونصفه غريب عن دنيانا التى تتقهقرُ فيها الإنسانية لترتدى مُسُوح التَّوحش إلى مدى ما كان يليق بها.
حين نقرأ رواياته؛ نُدرك الخُدعة التى أوقَعنا فيها ذلك الأديب الأريب، وقت تتملَكنا الحَيرة؛ لنكتشف أننا نقرأ قصيدة وليست رواية، أو رواية تنسكبُ منها لغة الشِعر، أما حالَما يأخذنا الوقت؛ فلا ندرى كيف يمضى سريعاً، فنتفاجا ونحن نطوى الغلاف الخلفى للرواية؛ إعلاناً وإيذاناً بأننا قد انتهينا منها؛ ساعتها نُوقن أننا قد وقعنا فى الخُدعة الثانية التى نصبها لنا؛ فنُسائل أنفسَنا: تُراها كانت رواية؟ أم قصة قصيرة؟ وإلا فكيف انتهينا من قراءتها سريعًا هكذا؟ لعله الشَّغف واللَّهفة التى تتملكنا والتى تليق بإصْداراته، ولعلها اللغة المَاتعة فى السَّرد الذى يُجيده.
أَثْرى أديبنا الحياة العربية الثقافية بـاثنتى عشرة رواية، وسبْع مجموعات قصصية، وثلاثة دواوين شعرية، ودراستين نقديتين، ومقالات عَصية على العد والإحصاء، ونال العديد من الجوائز فى القصة القصيرة والشعر والمقال.
يقول فى واحدة من قصائِده:
«يا امرأة
تُرضعُنى فى معبدِها سرَّ الخُلْد
وتحملُ بى مِنّي
أشقُ طريقى فى لُغة الخَلق
أُجبلنى بالشوق الآتى
وأُدلل شِعرى بالنَّجم
أصيرُ رذاذًا فوق هضابِك
يا امرأة
تتعانقُ فى كفيها حياتى
اسقٍنى مِن صبر الكَرم
أَسيرُ سفينًاً أتشامخُ فوق الموج
وأحملُ زوجين اثنين بمشكاتى
خُذينى للناس
سأُلقى شِعرًا فى المَهد
أكادُ أبعثِرُ طيرًا فوق تلال الرُّوح
أناديها، تأتينى من كل جِهاتى
يا امرأة
أتمددُ فوق يديها كالقُبلة
أو أتشاقَى فى صدريها كالطفل
وبين يديه حليبَ الفجر
ينادى الهُدهد كى يحمِله
فى هَودجِ مَجد هِجراتى
يا امرأة تترددُ فى حُضن جهاتى
أكاد من الوَهج
أُلقى فى السَّاحِ عَصاتى»
الوطن؛ الغُربة؛ السفر؛ المنفى؛ العِشق؛ الحب؛ الرُّوح؛ الفراشات؛ المرأة؛ الليل؛ السَّهر… مُفرادات تقع بين نابِ قلمِه وبَوحه؛ فتُشكّل عالمَه الشعرى، شاعرٌ يكابدُ آلام وطنِه والغُربة، ويُجابِه بحرفِه الماتِع مقادير يستشعر منها ظُلمًا وقع عليه وعلى الكثيرين، فيُسائلها دومًا عن حكمتِها وفلسفتها؛ راضيًا مَرضيًّا حِينًا، ولائِمًا عاتِبًا أحايين أُخرى، ومع ذلك يدعونا دومًا لعشق الحياة، ويتعزّى بالمرأة: الأم والحبيبة والابنة والصديقة، ففيها الوطن والملجأ والمنفى والسّند والحياة.. بل والمَمات.
هو أديبٌ يجبرنا على أن نفترش مِساحة هائلة من الروعة والجمال، فنُقبل حتى يُورطنا بلغته الرصينة السلسة الأنيقة؛ الشفيفة الهادئة كسمْتِهِ، حين يُبحر بنا فى عباب الكلمات كى يتعاطى مُورفين الكتابة لينقذ نفسَه من الانتحار، فى وقت يتركنا فيه نُشفق على أنفسنا من كل ذاك البهاء الذى جعل القصيدة مَسكنا مُلائماً له، فاعترشَها كما اعترش قمة الرواية والقصة، فنراهُ يحمل رُوحًا ثائرةً، وقلبًا رهيفًا، ووجَعًا نبيلًا، وحزنًا أصيلًا مُبرَّرًا، نتسمّع أنينّه ترنيمة نطربُ لها، وقليلٌ من يُدرك أنه كما الغزَال الذى يَغُنّ –وهو يتألم- حال بحثه عن صغيره التائه، لكنه يفاجئنا دوماً بالصِّبا والجمال الغَض اللذين يراوحان مكانَهما بين يديه.
«سأكْتبكِ
أتهجّى خلاياكِ كالأميّ
كى أُعيدَ قراءتكِ
أكتبُ حرفَكِ كالطفل
على ورق الصّباح بالأقاحِ
أعانقُه بعينى وكَفِّى ولهفتى
أُدوّرُه اُمدّده اُدوّزنه
حتى إذا صارَ على هيئتِكِ
أستلُّ ريشةَ فَجرى وأرسُمكِ»
لوحةٌ شِعرية باهرة لاشية فيها، يرسمُها شاعرنا بفرشاة كلماتٍ تنقلنا من ألقٍ إلى ألَق؛ فتسرُّ السامعين، ينسكبُ فيها روعة البَوح لتكون قاب قوسين أو أدنى من مُنتهى الجمال، لروحٍ دأبتْ على التمرد والانعتاق وسط رُكام من التدنى القِيمى والروحى الذى يعيشه عالمنا؛ فيطاول برؤيته وفلسفته وإبداعه حَد القمر فيسّاقط علينا نَدى من ألقٍ وبهاءً؛ يمرُّ علينا أنور الخطيب بإبداعاته ليتركنا واقفين دوما على أغصان الدهشة وأبواب العِشق.
«تَمُرينَ بى
تتركينَ بعد كل خطوة نَرجسة
شُجيرة حِناء
وطيراً قليل الحَياء
يُشْبهني
يَغمزنى لأتبعكٍ
بى شغفٌ أن أكون
أكثر مِن نَهر تنهّر
ومِن بحرٍ تبحّر
ومِن زهر تزهّر
ومِن خمر تخمّر
بى شغف أن أكون غَيمة
كلما رفعتِ ذراعيكِ السخيين للسماء
أُمْطِرُ».
http://www.soutalomma.com/Article/718721/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8