الكاتب الفلسطيني “للخبر” علمتني الجزائر كيف أكون ثائرا صادقا وكاتبا حرا وإنسانا مسؤولا

الكاتب الفلسطيني “للخبر” علمتني الجزائر كيف أكون ثائرا صادقا وكاتبا حرا وإنسانا مسؤولا

حوار مع الكاتب الفلسطيني (أنور الخطيب):

حوار أنور الخطيب في جريدة الخبر الجزائرية

حوار: مكي أم السعد/ الجزائر

الكاتب الفلسطيني انور الخطيب لـ (الخبر):

علمتني الجزائر كيف اكون ثائرا صادقا وكاتبا حرا وانسانا مسؤولا.

“بي رغبة للعودة إلى جامعة قسنطينة وزيارة فلسطين”  

افرز (الربيع العربي) مئات الدكتاتوريين ومن لم يسقط ازداد استبداداً

“تمنينا ألا يوَقع عرفات اتفاق (أوسلو) وألا يعود إلى رام الله وغزة تحت الحكم الصهيوني”

“الأنظمة العربية خذلت مليار ونصف مسلم بتخليها عن أدوارها تجاه المسجد الأقصى”

تحدث الكاتب أنور الخطيب، عن إصابة المخلصين بمتلازمة فلسطين، مقابل تراجع أدوار الأنظمة العربية تجاه المسجد الأقصى فخذلت مليار ونصف مسلم في العالم، وعدَد بأسى كبير خيبات الفلسطينيين مع زعيمهم ياسر عرفات، قائلا: “كنا نتمنى ألا يوقع اتفاق أوسلو، وألا يعود إلى رام الله وغزة تحت الحكم الصهيوني، وأن يبني منظومة أخلاقية وطنية تحرَم دم الفلسطينيين على بعضهم”، وأضاف أن فشله الذريع كان فاتحة لهزائم مزمنة أشاعت لاحقا (عدم أولوية) حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وكشف عن مخطط سرَي يشجع فلسطينيي المخيمات على الهجرة، وعن تبعات عبء لقب (نازح أو لاجئ) وربط اسمه بوكالة (الأونروا) كما بدا الكاتب فاقدا للأمل في خلاص بيت المقدس، بقوله صراحة: “ليس لدي أوهام بشأن أيوبيَ جديد”، خاصة بعد إفراز (الربيع العربي) لمئات الدكتاتوريين، ومن لم يسقط حسبه ازداد استبدادا.

بالمقابل عبَر الشاعر الفلسطيني، عن امتنانه للجزائر التي قدمت له منحة الدراسة بجامعتها، وكشف عن رغبته في العودة إلى جامعة قسنطينة، وإلقاء الشعر في قاعاتها، وعن حاجته لتدخل الجهات الرسمية لتمكينه من الدخول إلى فلسطين، التي قال عنها أنه: “لن أزورها كسائح، وإنما كجنين يعود إلى رحم أمه”، يتساءل الكاتب المدرج في قائمة (المبعدين) بحرقة كبيرة عن عجز السلطة الفلسطينية عن مساعدته ككاتب ألف خمسة وعشرين كتابا بإصدار تصريح له لزيارة موطن أجداده، مقابل منحها لبعض المغنين والمذيعين جوازات سفر دبلوماسية.

– كيف أثَر التاريخ الطويل لتهجير وإبعاد الفلسطينيين عن أرضهم وتشريدهم في المنافي على (النخبة) الفلسطينية تحديدا؟

* اسمحي لي أن أذهب إلى البدايات وأقول إن النكبة التي وقعت في العام 1948، تركت مئات الآلاف من الفلسطينيين مشردين في الدول العربية المحيطة، ووجدوا أنفسهم بلا بيوت ولا أموال ولا أراض، وتحت رحمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بعد أن كانوا يعيشون حياة كريمة في بلدهم. في الشتات لم يكن أمامهم سوى العلم لمواجهة الفقر والتشرد، في غياب مشروع عربي وفلسطيني سياسي أو عسكري مخلص يعيدهم إلى أراضيهم وبلداتهم. كان العلم منجاة وخلاصا من البؤس المستمر في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والأردن ومصر والضفة الغربية وقطاع غزة، نعم هناك مخيمات للاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة – لاجئ في وطنه، أليست مهزلة- ولهذا، أصبحت نسبة المتعلمين بين الفلسطينيين هي الأعلى في الوطن العربي، ولكن، لا نستطيع إعادة الفضل إلى النكبة، والنظر إليها كإيجابية، لأن رغبة الفلسطيني في التعلم متأصله فيه قبل النكبة، وكثير من المثقفين والعلماء والمبدعين هاجروا فلسطين قبل النكبة إلى بلدان عربية وأجنبية طلبا للعلم والتخصص، وأصبح لدينا نخبة في المنفى. ويمكننا القول إن النخبة الفلسطينية هي نتاج محاولة القفز الفلسطيني عن المأساة، فكتب الفلسطيني وابدع وقرأ وتثقف ليزيح عن كاهله عبء اللقب (نازح أو لاجئ) وألا يرتبط اسمه بوكالة (الأونروا)، فالنخبة المعاصرة لم تكن نخبة، لأنهم خرجوا أطفالا من فلسطين، أما النخبة التي ظلت في فلسطين فأوجدت وسائل تعبيرها لإظهار موقفها ضد الاحتلال الصهيوني، إن كان في الشعر أو في الرواية. وبشكل عام، أوجدت النكبة عقدة لدى الفلسطيني، وحرضته على التفوق في مجالات كثيرة، ليتخلص من خزي اللجوء وخيانات محيطه له، بل إن العقدة طالت الشخصية الفلسطينية أيضا في السلوك لإثبات الذات.

– ما الذي كنتم تنتظرون تحقيقه من رمز المقاومة الفلسطينية (ياسر عرفات) ولم يفعله؟.

* سأجيب بشكل مباشر وصريح، تمنينا أن يكون للثورة الفلسطينية إستراتيجية واضحة المعالم، تمنينا أن تستند الثورة الفلسطينية إلى الشعب في زخمها السياسي والمالي والتوعوي، وليس إلى الأنظمة، لأن من يمولك يمكنه فرض شروطه وسياساته، وتمنينا أن يبني منظومة أخلاقية وطنية بين الفلسطينيين، ترسخ فيهم الانتماء وتجعله مقدساً، وتحرم دم الفلسطيني على الفلسطيني. وكنا نتمنى أن يكون مكان المقاتل أو الفدائي الجبال والكهوف وليس المدن، كما فعل الثوار والمجاهدون الجزائريون. وكنا نتمنى أن يجمع حوله المتعلمين والمثقفين المخلصين ليكونوا نواة الحراك التوعوي واستمراريته، تمنينا أن يحرك الوعي البندقية وليس العكس، كنا نتمنى أن تتمتع الثورة الفلسطينية بسرية أكبر وتنظيم أكثر إحكاما حتى لا يخترقها العملاء والمندسون. كنا نتمنى أن يحاسب المقصرين عن الهزائم والانتكاسات العسكرية، كمحاسبة المسؤولين عن اجتياح جنوب لبنان في العام 1982 بسرعة وسهولة حتى وصل الجيش الصهيوني إلى بيروت. كنا نتمنى أن يوقف استغلال قيادات كثيرة لمناصبها في ابتزاز المحتاجين وخاصة أسر الشهداء. كنا نتمنى ألا يقيم جمهورية الفاكهاني في بيروت، وأن يحترم السيادة اللبنانية، وقبلها السيادة الأردنية. كنا نتمنى أن يعمل على تثوير الشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعب العربي بشكل عام. كنا نتمنى ألا يوقع اتفاق أوسلو وألا يعود إلى رام الله وغزة تحت الحكم الصهيوني، كنا نتمنى أن يغير من الطاقم المحيط به الذين تحولوا إلى أصحاب رؤوس أموال وأنصاف آلهة يطالبون الشعب بعبادتهم. كنا نتمنى أن يؤهل قيادات شابة بعده، لا أن يترك العجائز يقودون الشعب حتى الآن إلى مزيد من العجز، كنا نتمنى ألا يحتكر القيادة لنفسه، وكنا نتمى أن يستقيل قبل رحيله، ويعيّن بديلا عنه يتحاشى أخطاءه. إن عدم تحقيق هذه الأمنيات وأمنيات أخرى أدى إلى فشل ذريع وتخبط وتراجعات وهزائم، حتى يشاع أن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم لم يعد أولوية.

–  كيف تقيَمون تعامل السلطات العربية مع القضية الفلسطينية، على ضوء الأحداث الأخيرة بغلق المسجد الأقصى، وإن كان فيها تخاذل وإجحاف كبير لنصرة القدس؟.

* للأسف لم تتعامل الأنظمة العربية حتى الآن وفق طموحات الفلسطينيين، وكل يوم تتخلى عن أدوراها، والمسجد الأقصى ليس للفلسطينيين وحدهم، إنه لمليار ونصف مسلم.. في حلقي شوك كثير يا سيدتي.. يكفينا القول إن اليأس يتحكم الآن بالفلسطينيين في الشتات وداخل أراضي السلطة الفلسطينية، ونسبة كبيرة تسعى للهجرة، وما لا يتحدثون عنه، هناك تشجيع سري وعلني لفلسطينيي المخيمات للهجرة، وهناك مخطط للتهجير إلى أستراليا وكندا، الفلسطينيون خُذلوا منذ مهزلة جيش الإنقاذ حتى الساعة من العرب، وخُذلوا أكثر من قياداتهم الرعناء.

–  أنور الخطيب، شاعر يصنع من كوفيته التي يلقي بها على كاهله، ويشد بها على عنقه في مناسبات كثيرة (قضية) واستعارة رمزية يضمنها (رسالة) للعالم بأسره مفادها: “يا قدس نحن قادمون”، هل تؤمن بإعادة تحرير بيت المقدس، وأن (أيُوبيَا) جديدا سيبعث مع نهايات تاريخ البشرية؟.

* لم أردد هذا الشعار يوما، وإن تضمنت معناه وروحه بعض قصائدي، وليس من مهامي أن أردده، وأنا غير معني بالقدس فقط، قضيتي وطن بحجم الكون إسمه فلسطين، وليس لدي أوهام بشأن أيوبي جديد، إذا كانت فلسطين ستعود أوستتحرر، فهذا لأن (إسرائيل) ستتفتت من الداخل، وما نراه الآن لا يبشر بالأمل مطلقا، ولا يصلح لوصف حال القدس سوى قصيدة مظفر النواب التي صرخ فيها قبل أكثر من ثلاثين سنة: (القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها..):

–  كيف تصير فلسطين (حاسة سادسة)؟.

هذه العبارة وردت في قصيدة المخيم، التي يرددها أبناء المخيمات في لبنان، فأينما قرأت شعرا يطلبون هذه القصيدة، لأنها تحاكي واقعهم وتعبر عن شموخهم وطموحهم. فلسطين بالنسبة لابن المخيم هاجس أزلي، ومعظم المخلصين مصابون بمتلازمة فلسطين، إذا صح التعبير، لأن ذكر فلسطين على ألسنتهم تريح أرواحهم، تماما كما يذكر المؤمن الله، فهم يسبحون بها لأنها الحقيقة الأبدية الموجودة في حياتهم، وهي هويتهم وملامحهم، والعالم كله يتمحور حولها، كل نشرة أخبار تخلو من ذكر فلسطين لا قيمة لها، وكل أغنية أو قصيدة أو رواية أو لوحة تشكيلية تخلو من فلسطين تصريحا أو رمزا، أيضا ستكون ناقصة، هكذا يعتقدون، أما بالنسبة لي، فإنني أكتب فلسطينيتي دون ذكر فلسطين، أكتبها في كل قصيدة حتى لو كانت عاطفية تتحدث عن العشق والحب والشوق، وأريد أن أصارحك هنا وأقول، أشعر أن العلاقة العاطفية تبقى ناقصة لعاشق لا وطن له. لهذا فلسطين حاسة سادسة.

مقطع من قصيدة “المخيم ..”

طفل تعلم زرع التين في حاكورة العشق

كأنه يخط حرفا على سور عكا

وحين ينقل الماء في جرة النفي

يسرّب عبر الوريد برتقال يافا

ويكبر في كل يوم سروتين

ويكتب في كل حلم عودتين

عودة للعشق في جوهر العشق

وعودة للهدير في بحر غزة

فيطرب إذ ينتقي – خارج الحلم – عودة ثالثة

وعودة رابعة وعودة عاشرة .. ..

وعودة وعودة وعودة

يصير حزاما يحيط القدس بالشهقة الناسفة

تصير فلسطين بعدها حاسة سادسة

– قلتم: “ماذا يعني أن أكون الآن في رام الله؟، وماذا يعني أن لا أكون الآن في رام الله؟”، فسَر البعض ذلك بكون المسألة أبعد من مقولة شكسبير (أكون أو لا أكون) وابعد من فلسفة ديكارت المعدلة: (أنا في رام الله إذن أنا موجود) وقلت أيضا: “الوطن في داخلي وأنا خارجه”، فهل ما زال الكاتب الفلسطيني المنبت، اللبناني الترعرع، جزائري الهوية التعليمية، إماراتي الإقامة، يعدٌ نفسه في قائمة “المبعدين” بعد هذا “الاحتواء” العربي؟.

  • ورد هذا التساؤل في مقالة كتبتها ونشرتها في صحيفة تصدر في رام الله، وكنت وقتها أنتظر تصريح زيارة لفلسطين بدعوة من وزارة الثقافة، لكن الصهاينة، كما أُبلغتُ لاحقا، لم يوافقوا، فكتبت ما كتبت. نعم، الوطن في داخلي وأنا خارجه، زيارته حلم، ووجوده في خلاياي حقيقة، ولا أدري كيف سأتصرف لو كُتبت لي زيارة الحلم، نصحني كثيرون بعدم الزيارة كي لا يتكسر الحلم، لكنني لن أزور فلسطين كسائح، وإنما كجنين يعود إلى رحم أمه، وإلى أن يتحقق الحلم الصعب الذي بات اشبه بالمستحيل بعد رفض الكيان الصهيوني زيارتي لثلاث مرات، سأبقى في قائمة المبعدين. فهل يُعقل أن تعجز كل السلطة الفلسطينية عن إصدار تصريح لكاتب أصدر 25 كتابا حتى الآن، لزيارة فلسطين؟ وتمنح بعض المغنين والمذيعين جوازات سفر دبلوماسية! مع احترامي ومحبتي لهؤلاء الفنانين-

    –  كيف أثَر تداخل الأمكنة على حياة الكاتب (أنور الخطيب) بين الانسلاخ من موطن العائلة الأصلي “قرية شعب”، نحو لبنان، ثم الانتقال إلى الجزائر قبل الاستقرار بالخليج (دولة الإمارات العربية المتحدة)؟.

  • أنا لم أولد في “شعب” قريتي الأصلية، أنا ولدت في لبنان، لكن ولادة الوعي الحقيقي كانت في الجزائر، حيث بدأت الكتابة الحقيقية، وحيث نشرت أولى قصصي وقصائدي وترجماتي في جريدة النصر في مدينة قسنطينة، ثم انتقلت إلى الكويت، وأصدرت مجموعتي القصصية الأولى (خازوق)، ثم حضرت إلى الإمارات، حيث نضجت إبداعيا. هذا الانتقال الدائم، رغم أني في الإمارات منذ أكثر من ثلاين عاما، يجعلني أشعر أنني أسير على رمال متحركة، ناهيك عن إحساسي الشخصي الدائم بعدم الاستقرار، وهذا ينعكس على تفاصيل حياتي، وأثاث بيتي وعلاقاتي وصداقاتي، وربما أتآمر على نفسي لأشعر بعدم الاستقرار، من لا وطن له لا أثر لخطوته، ويبقى كمن يسير في الضباب، ولاحظ النقاد تكرار مفردات مثل: المنفى، الغريب، كثيرا في اشعاري، وهذا حقيقي، أنا كائن غريب حد الثمالة.

    – إقامة (أنور الخطيب) في الجزائر تزامن وفترة شبابه –أواخر السبعينيات-، وحصوله على شهادة من جامعة قسنطينة في الأدب الانجليزي، هل يعني ذلك أن انطلاقته المهنية والكتابية بدأت من الجزائر، حيث نشر نصوصه القصصية بجريدة “النصر”، ولماذا اختيار الجزائر في تلك الفترة، وتداعيات ذلك على حياتكم لاحقا؟.

  • من عظمة الجزائر وكرمها أنها اختارتني لأدرس في جامعاتها، وفّرت لي منحة دراسية لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها، وكنت من خريجي الدفعة الأولى في هذا التخصص، وبصراحة، لولا هذه المنحة لما درست في الجامعة، أو ربما تأخرت كثيرا في الالتحاق بالجامعة، وفي الجزائر بدأت بالكتابة بنية الاحتراف، وحصلت على دعم كبير من أساتذتي، في الجزائر نضجت تعليميا ومهنيا وإبداعيا وعاطفيا وفكريا، وما زلت حتى اللحظة أذكر تفاصيل مدينة قسنطينة وملامحها الجميلة الدافئة، وأحن إليها حنين العاشق لمكانه الأول، بي رغبة أن أعود إلى جامعة قسنطينة وألقي شعرا في قاعاتها. الجزائر علمتني كيف أكون ثائرا صادقا، وكاتبا حرا، وإنساناً مسؤولا. تجربة الثورة الجزائرية من أصدق التجارب في العالم، وأحزن حين لا يذكر الثوريون الهواري بو مدين وبن بيلا، ويذكرون تشي غيفارا وكاسترو، بومدين قاد ثورة الاستقلال وبناء الدولة، وهو جدير بأن يكون في مقدمة الرموز الثورية في العالم. ولو عاد التاريخ إلى الوراء لاخترت الجزائر أيضا مكانا للدراسة والتأهل الوطني والعلمي والإنساني.

    – شكَل التداخل بين الأجناس الأدبية في مسيرتكم الأدبية، بين القصة في مستهل التعاطي مع الإبداع الأدبي، الشعر، ثم الرواية فالدراسات النقدية، محطات لتجميع مسار طويل من الكتابة (الخطيبية) هل تعتقدون أن إدراج اسمكم ضمن معجم الأدباء العرب، والموسوعة الفلسطينية، والحصول على الكثير من الجوائز والألقاب، كاف ومقنع ومبعث ارتياح لشاعر (مرتبك)؟

  • نعم يا سيدتي، بدأت بكتابة القصة ثم الرواية، وكان الشعر هو القاسم المشترك بينهما، ومالا يعرفه القراء أنني مارست الرسم، وحاولت التمثيل أيضا، لكن الكلمة كانت الأقرب إلى شخصيتي، فالتمثيل لا يصلح لشاب خجول، والرسم يتطلب مستلزمات غالية الثمن لم يكن بمقدوري توفيرها، فكان الحرف صديقي، لا يحتاج إلى إمكانيات مادية، اللهم إلا قراءة الكتب، التي كنت أحصل عليها في بداياتي من مكتبات الأساتذة والأصدقاء. إن نوعا أدبيا واحدا بقالب واحد يبقى عاجزا عن الإحاطة بتفاصيل وملامح قضية وطنية وإنسانية وعاطفية. أنا لا أكتب من أجل الجوائز ولا الشهرة ولا الألقاب، ولا كي يُدرج اسمي في معجم أو موسوعة، أكتب كي أكون أنا، كي أتعرف إلى نفسي، وأحفر في أسئلة الوجود المربكة. أنا فعلا شاعر مرتبك، وروائي مختنق، أشعر أن الإطار يكبلني فأتمرد على الزمان والمكان وأتمرد على شخوص الرواية أنفسهم، وأسعى فعلا لكتابة رواية متفجرة من الداخل، تصنع القلق والأرق والضجيج، لتكون رواية احتجاج على الحصار. الكاتب الفسطيني مبدع محاصر، وكل محاولاته في الكتابة أو أنواع التعبير الأخرى، هي لفك الحصار عن روحه، والمعضلة أنه كلما فك حصارا يصطدم بآخر، وإن لم يجد من يحاصره يحاصر نفسه ليتمرد على ذاته.

    –  تٌظهر قراءة أدب الخطيب الاعتماد كثيرا على عنصر (الرمزية) وعلى تكرار الاستناد والعودة إلى الشخصيات (المقدسة والمباركة) كما هو الشأن في “وردة عيسى”، و”الكبش”، وفي أشعاركم يتجلى ذلك بشكل أكبر، هل يمكن تبرير ذلك بأن (الرمزية) هروب من واقع ما، والشخصيات ذات المراتب العلوية والمنزهة دينيا عن باقي البشر، يمكنها أن تخلص البشرية من آلامها، وتنتج السلم.

  • حيث توجد الرمزية يوجد الأدب، لكن الرمزية التي تحمل مفاتيحها، وليست الرمزية المغلقة المعتمة. أنا وبشكل شخصي، لا أحب الصراخ، ولا الهتافات، لأنها مباشرة، وكل مباشر مؤقت، وكل مؤقت يموت ولا يعيش في المستقبل، كتظاهرة تنطلق ساخنة ثم تبرد في النهاية، وكأن شيئا لم يكن. أميل إلى الرمزية في الرواية والشعر والأدب عموماً لأنها مفتوحة عل التأويلات التي تحاكي ذكاء القارئ، ولا بأس أن يختار القارئ المعنى الذي يرضيه، فالعمل الرمزي يحتمل التعدد في الاستنتاج والإيحاء، ويخلق الفرح في روح القارئ، والرمزية ليست هروبا من الواقع وإنما هي تمنح الواقع أبعاده ولا تسجنه في مقولات جامدة. أما الشخصيات المقدسة والمباركة أو الملعونة، فهي جميعها تصب في رفع العمل الإبداعي ليكون فوق الواقع، بحثا عن أسطورة أو معجزة، واستخدام بعض الرموز في الرواية ليس لتبجيلها، ولكن لمحاكمة الوعي الجمعي العام، وإظهار ابتزاز الطبقات السياسية للدين للتحكم برقاب العباد. ومن جهة أخرى، نحن في حاجة إلى معجزات لتخليص الناس البسطاء من آلامهم، فالأثرياء لا يتألمون وإن ادعوا، ألا تعتقدين أننا في حاجة إلى تدخل رباني مباشر لحل مآسينا العربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟

    – هل تؤيدون ما كتبه البعض عنكم: “طالما هناك شعراء مثل أنور الخطيب، فـ (درويش) لم يغب”.؟

  • هذا البعض الذي أحترمه لا أشك في نواياه، يعتقد أن درويش هو النموذج الشعري الأرقى، وأنا معهم في أن محمود درويش مدرسة شعرية عبقرية لن يجود الزمان بنسخة منها، لأن شعره يشبه بصمته الوراثية، خاص به، وليس بالضرورة أن يتكرر درويش، ولكن من الضروري أن يكتب شعراء بمستوى درويش أو أفضل، ليس بمعنى التبعية والتقليد، ولكن بمعنى الارتقاء والإضافة. كثيرون يقولون إنني أذكرهم بدرويش، وفي الواقع قد أذكرهم بمدرسة العظيم محمود درويش الشعرية، التي لم يدرسها أحد بشكل جاد حتى الآن، بل على العكس، انبرى عدد من النقاد لمهاجمة درويش واتهامها بالسرقة من فلان وعلان.. وهو عمل غير أخلاقي وغير نقدي. بالنسبة لي، أنا من معجب جدا بمدرسة محمود درويش، وكما أن درويش لم يُدرس، فأنا لم أُدرس أيضا، ربما لأن لعنة درويش حلت علي! نشرت 13 رواية، وسبع مجموعات شعرية، وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين في النقد، وأعد لديوان شعري جديد ورواية جديدة.

    – كم بلغ عدد منشوراتك؟

  • نشرت 13 رواية و7 مجموعات شعرية، وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين في النقد والتوثيق الثقافي.

    – عند رثائكم لمحمود درويش، قلتم إن: “اللغة لا تموت”، فهل مثَل الشاعر لغة أجيال، ولسان أمم.؟

  • محمود درويش هو لسان الإنسان الفلسطيني، بقلقه ووطنيته وطموحه، هو فخر الإبداع الإنساني والأممي، تحول شعره إلى مقولات ترددها الأجيال على مختلف مستوياتهم العلمية، هو شاعر فيلسوف وشاعر مفكر، قصيدته تحمل مرجعيات لثقافة إنسانية عميقة، وهو الشاعر العاشق المميز، شاعر الغزل الأرقى. ولهذا فهو لا يموت لأن لغته باقية وحية ومتجددة.

    –  نلاحظ الكثير من التلاحم بين الشعبين الفلسطيني والجزائري، واعتبار الفلسطينيين لأشقائهم في الجزائر أكبر “مناصر” لقضيتهم، والداعمين لتوجهاتهم، وقد انتقل ذلك من السلطة السياسية منذ زمن “هواري بومدين” إلى “المواطنين” العاديين، حيث لم تعد المناصرة حكرا على تقديم الإعانات المادية، بل انتقلت للملاعب، وساحات الاحتجاج العالمية، وإقامة مسيرات حاشدة لنصرة القضية الفلسطينية، والتي عادة ما يقودها شباب، ما تعليقكم على ذلك؟.

  • الجزائر كانت ولا تزال من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية، والجزائريون أكثر من يعشق فلسطين، والمتطوعون الجزائريون قدموا إلى فلسطين ليحاربوا الإنجليز والإسرائيليين، وشيدوا قرى باسمهم في فلسطين، وقدموا شهداء، هكذا يقول المؤرخون، وكان الجزائري يستقطع من قوت يومه ليرسله إلى الفلسطينيين دعما لصمودهم. ولا يستطيع أحد المزايدة على حب الجزائريين لفلسطين والعروبة، ولا زلت أذكر وأنا في جامعة قسنطينة حماسة الشباب واستعدادهم للقتال إلى جانب الفلسطينيين. إن شعبا طرد قوة عظمى من أراضيه، وقدم مئات الآلاف من الشهداء، لا شك سيكون إلى جانب عدالة القضية الفلسطينية، لأنه يؤمن بالحق والعدالة وضرورة أن يحيا الانسان في وطن حر.

    – قلتم في إحدى حواراتكم، فيما يتعلق بالواقع العربي: “كل ما أخشاه أن يفرز الربيع العربي دكتاتوريات أخرى تحت ذرائع مختلفة”، فبعد ثورة (الياسمين) التي أشعل فتيلها “البوعزيزي” في تونس، وانتقلت لباقي البلاد العربية، ما الذي تغيَر في الوطن العربي، وهل تحققت الديمقراطية المرجوَة؟.

  • ما خشيت منه تحقق على أرض الواقع، وافرز (الربيع العربي) مئات الدكتاتوريين بدلا من الدكتاتوريات التي أُسقطت، ومن لم يسقط ازداد استبداداً. الأمر الأخطر أن التنظيمات المتشددة أو المتطرفة مارست دكتاتورية دينية غير مسبوقة، جعلت العامة ينفرون منهم، ويتحاشونهم. وأنا أقولها بصراحة، لن يتغيّر شيء في الوطن العربي إلا إذا تحولت الأنظمة إلى أنظمة مدنية، ليست عسكرية وليست دينية وليست مذهبية، الأنظمة العقائدية مشاريع لحروب مستدامة، لأن الجدال مفتوح على الخراب، بسبب عدم احترام الرأي الآخر أو الاجتهادات، الربيع العربي تحول إلى كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولم يستفد منه سوى الكيان الصهيوني

    – تحدثتم عن (المشروع الثقافي الحقيقي العربي) هل يمكن تحقيقه في ظل الصراعات الداخلية بين الكتاب في بعض الدول، وواقع اتحاداتها “المشلول”؟

  • للأسف لا يوجد هناك مشروع ثقافي عربي يمكن تجسيده وترجمته في الوقت الراهن، والسبب بسيط جدا، لأن المشاريع القُطْرية تزدهر شيئا فشيئا، والأقطار تنكمش على ذاتها باحثة عن الخصوصية، ولا بأس في هذا، لكن الاستغراق في البحث عن الخصوصية يجب ألا يقابله نسيان الخطوط العريضة التي توحد الساحات الثقافية العربية، وللأسف مرة أخرى، يتم التلاعب بمفهوم الهوية بأفق ضيق، ويضيق حتى يصل إلى تمجيد القبيلة والعشيرة، لنعود مرة أخرى لتحكمنا العقلية القبلية، والمثقفون هم الذين يروجون لهذه التوجهات، واتحاداتهم بدل أن تكون طلائعية، فإنها تتحول إلى جزء من مؤسسات الأنظمة، واتحاد الكتاب العرب، المفترض فيه أن يكون موضوعيا ومنفتحا على أنماط الإبداع المختلفة والأفكار، فإنه يمارس دورا سلطويا أبويا، فيستبعد هذا ويقدم ذاك بناء على العلاقات الشخصية والمنافع الذاتية، لقد شاخ اتحاد الكتاب العرب كما شاخت جامعة الدول العربية، ويجب أن يتنحى العجائز جانبا ليمر الدم الجديد في جسد الثقافة.

    – ما هو تقييمكم لواقع الترجمة، والحراك التبادلي بين الثقافات العربية والأجنبية، خاصة في ظل المجتمع العالمي الرقمي، والاهتمام بالنشر الإلكتروني، والحديث عن مشاريع المكتبات الإلكترونية المتاحة عبر الهواتف واللوحات الذكية، والمعارض الإلكترونية، وهو ما يفرض على الكتاب العرب التهيؤ لخلق مساحة لهم عبر هذا الفضاء، ومخاطبة القراء في الضفة الأخرى بلغاتهم؟.

  • نعود مرة أخرى إلى المؤسسة الرسمية، فهي التي تقوم بجهد الترجمة، وتفرض خياراتها على القارئ، ولا تترجم لمن لا يشاطرها الرأي ويختلف معها في أمور جوهرية. العرب أقل الأمم ترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، بينما الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الآخر فيكاد يكون معدوماً، ومعظم الكتب المترجمة إلى اللغات الأخرى هي كتب ترويجية ودعائية لا علاقة لها بالثقافة. أما مسألة استخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، أنا أؤكد لك أن معظم الكتاب العرب لا يجيدون استخدام الكمبيوتر، ويفضلون الكتابة على الورق (إذ تغريهم رائحة الورق والحبر..!)، فكيف يمكننا في هذه الحال الحديث عن نشر إلكتروني ومكتبات إلكترونية. مثال بسيط: دارت أحاديث كثيرة بيني وبين كتاب وشعراء من المغرب العربي أو مصر أو العراق أو لبنان وغيرها، وحين كنت أعرض عليهم إرسال روايتي إلكترونيا، يقولون أنهم يفضلون الورق، باختصار الساحة الثقافية العربية غير مهيئة لثورة إلكترونية.

– كتب أنور الخطيب لكل الفئات في المجتمع، لكل الأعمار، وللجنسين، للأسرى وللمهجَرين، لليتامى، وناجى “القدس” مطولا، كتب عن الألم المزمن الذي ورثه عن والده حين هاجر “قرية شعب” –قلت والدي أفرغ فيَ ذاكرته-، وكتب عن المرأة كثيرا، وعن الحب أكثر، حتى صار الغزل مرادفا للوطن، ولقضية تحرير قلب فلسطين (الأقصى) فهل قال الكاتب الشاعر الروائي كل شئ؟.

* من الصعب الادعاء أنني قلت كل ما أريد، لم أكتب بعد القصيدة التي أريد، ولو كتبت نصا شعريا أشعرني بالرضا سأبحث عن نص آخر بفكرة أخرى وقالب آخر، لا نهاية للشعر، ولا حدود لمداه، على العكس أشعر أحيانا أنني لم أكتب شيئا. أما على الصعيد الروائي، فما زلت أرتبك كلما جلست لأكتب قصتنا، نحن الفلسطينيون، ولم تُكتب بعد الرواية التي تقولنا وتصفنا وتوصّفنا، الشخصية الفلسطينية مركبة ومعقدة بفعل التهجير والاحتلال والفقد والتنكيل والحرمان، وملايين الشخوص الفلسطينية يتحركون في جغرافيا ليست لهم، وفي داخل كل منهم قصة ورواية وقصيدة، إن الادعاء بالقول أن الشاعر أو الروائي كتب كل شيء أو كل ما يريد هو خيانة للشعر وقضيته الوطنية والإنسانية.

– ماذا تعني لكم مفردات: المخيَم، الطفولة، شجر الزيتون، أبو عمار، الإنسان؟

  • المخيم: اختبار للصمود والانتماء ومختبر الرجولة والإرادة والعشق.

  • شجر الزيتون: رمز مقدس.

  • الإنسان: حيوان مغرور.

  • أبو عمار: سحابة فلسطينية خذلها المطر.

  • الطفولة: لم أعرفها في الصغر، وأعيشها في الكبر. في كل الأحوال هي حسرة الكبار

    – ما هي أقصى أمنيات الكاتب أنور الخطيب؟

  • * أن أراني في قرية شعب، وأنسى هناك أنني كاتب.

نشر في صحيفة الخبر الجزائرية 17 نوفمبر   2017

 

اترك تعليقاً