رواية الكبش، الفصل الثامن والأخير، مسرح المدينة، تأليف: أنور الخطيب

رواية الكبش- الفصل السابع

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

مسرح المدينة

خرجت من القصر خفيفاً نقيّا حُراً. رميت اللحية الاصطناعية، لففت العباءة السوداء وأمسكتها بقوة، ثم ركضت كطفل في مدى أخضر حتى وصلت البوابة الرئيسة. دار حوار سري مبهم بيني وبين الحارسين اللذين كانا يرتديان نظارتين سوداوين، أقفلا البوابة خلفي بهدوء، وجدتني أمشي ببطء شديد لأسمع الهمهمات التي كانت تنبعث من بين الأشجار، ثم ما لبثت أن رأيت عيونا تلمع مع انعكاس ضوء سور القصر، تأكد أن القطط نهضت من نومها ولم تعد تموء.

كان الشارع معتما إلا من أضواء كانت تنبعث من سور القصر، تعمّدت ألا أستحضر أي مشهد أو حوار أو شكل من أشكال الكائنات القصيرة التي كانت تروح وتجيء داخل القصر كالآلات الشبقة.

كانت حركة السير بطيئة في تلك المنطقة، لا أحد يحضر إلى القصور في سيارة أجرة. بدوت غريباً وأنا أمشي بهدوء تارة وبسرعة تارة أخرى. ارتابت نظرات رجال الشرطة والأمن بي أكثر من مرة. كانت السيارات الفارهة العائدة من السهر أو الخارجة إليه تنطئ حين تمر بي، يتفحصني سائقوها ثم يواصلون السير حاملين معهم علامات التعجب والاستفهام.

قررت العودة سيراً على الأقدام إلى شقّتي أو شقّي أو شقاوتي كما كانت تسميها “حياة”. توقفت فجأة ونظرت في الاتجاهات جميعها، حتى أنني نظرت إلى الأعلى والأسفل، لم تعد صورة الطريق واضحة في ذهني، ليس لأنني كنت أسير في منطقة بعيدة أجهلها، وإنما لأن عقلي لم يستطع رسمها، وبدأت الأزقة والبنايات والعلامات الفارقة تتداخل في بعضها بعضا إلى درجة أحسست فيها بإحباط الضائع. فكرت في أن استقل سيارة أجرة وتراجعت، نسيت اسم الشارع والبقالة ومركز التسوق المجاور للبناية التي أسكنها، كأن العيون التي لمعت في الظلمة سرقت بعضاً من ذاكرتي أو كلها، وأن الهمهمات دخلت تجاويف دماغي وبدأت تدور لتطيح بقصور أفكاري.

همت على وجهي، تنقلت من شارعٍ إلى آخر كفاقد الذاكرة، فجأة توقفت سيارة بجانبي وسمعت صوتاً ينطلق من داخلها: (ماذا تفعل يا دكتور في هذه المنطقة؟ أنت تتجه إلى خارج المدينة، هل تعاني من شيء..!).

تمعّنت بالسائق فقال: (أنا صديقك الدكتور لبيب، أجريت لك فحوصات قبل يومين. اصعد لنغادر هذا المكان..).

لم أتردد في الصعود، قال لي إنه كان يزور أحد سكان القصور للاطمئنان عليه، بعد أن تبيّن وجود عناصر غريبة في دمه، لا هي بكتيريا ولا فيروسات.

سألت الدكتور بخجل: (هل تعلم مكان سكني؟).

قال إنه أوصلني مرة واحدة فقط، وسألني مندهشاً: (يبدو أنك مشوّش جداً يا دكتور، هل كنت تعاين كبشاً مجنوناً؟ أم أنك تعاني من ضعف في الذاكرة؟).

لا أدري كيف سمح لنفسه طرح كل تلك الأسئلة على رجل تائه في الشوارع ويسأل عن مكان سكنه.

قلت له بحزن شديد: (لا أدري، ولا أفهم ما تقول، أرجو أن تأخذني إلى بيتي، أريد أن أرى أمي وأخوتي الصغار، اشتقت لها يا دكتور؟).

لم ينبّهني بقوله إن أمي ماتت، وأبي مات، بدا أنه أدرك الحالة التي دخلتها فجأة. نظر في وجهي بعطف فقط، ووضع كفه على كفي وقال: (حسناً، سنذهب إلى أمك، ربما هي اشتاقت لك أيضا..).

ابتسمت بغباء، واستمر في قيادة السيارة، تعمّد اختيار طريق طويل مستقيم، ووضع في جهاز تشغيل الأقراص المدمجة قرصا فأصدر موسيقى رائحة للعظيم “باخ”، فعزف على آلة عزلتي العميقة.

أسندت رأسي على راحة يدي وغفوت. أستيقظت حين شعرت بكف الدكتور على كتفي، كان يهزني بلطف ويخبرني بالوصول، لم يقل لي أنني سألتقي بأمي بعد قليل.

دار رأسي في الاتجاهات كلها، ركّزت على البناية التي كانت تقع على الجهة اليمنى، نظرت إلى الدكتور شاكراً معتذرا وقلت: (هل كنت أيضا في زيارة إلى الرجل الكبير؟).. فقال: أنا سعيد أنك بخير الآن، لا عليك يا دكتور، أرجو أن تزورني في صبيحة يوم غد، أنت في حاجة إلى بعض الفحوصات.

كانت الساعة تشير إلى الثانية ليلا، توجهت مباشرة إلى سطح البناية، طرقت باب “أوفيسر” عدة مرات، ناديته باسمه، أطل رجل على مشارف الستين من عمره، أخبرني أن أوفيسر غير موجود، ثم سألني: (من هو “أوفيسر”؟).

  • إنه الحارس؟

طلب مني المغادرة بفظاظة وأغلق باب حجرته.

هبطت إلى الطابق الأول، طرقت باب الشقة 107، فتح الباب شاب وهو يفرك عينيه، سألته: (هل المسعودي موجود؟).

أجاب بلغة مؤدبة: (يبدو أنك أخطأت في العنوان أيها الطيب..).

صعدت إلى الطابق السادس لأسأل عن “حياة” فلم أجدها، فتحت لي سيدة كانت تحمل غيتارا وتتحدث بلغة أجنبية لم أفهم منها حرفاً واحداً.

انطلقت إلى الطابق السابع، قرأت لافتة صغيرة معلقة على باب الشقة التي كانت تسكنها الفتاتان: “للإيجار، للمثليين فقط”.

توجهت إلى الدور العاشر، فشلت في فتح الباب، قرأت لافتة صغيرة: (صالون تجميل الحيوانات).

ضربت جبهتي بكفّي. أمسكت الهاتف بأصابع مرتجفة، اتصلت بسمير فرد علي ضابط في إدارة مكافحة المخدرات.

اتصلت بالمرأة الكبش القربان، ردت سيدة قالت إنها تتحدث من الكنيسة وأنهت صلواتها الليلية قبل لحظات، وباركتني.

اتصلت بالفارس، رد عليّ رجل الأمن في الهمنغواي.

اتصلت بالرجل الكبير، رد صوت ناعم من آلة تسجيل يتحدث عن أنواع المساج.

ضربت رأسي بالجدران ومرآة المصعد حتى سال الدم وساد الضباب.

في الصباح وجدتني أجلس أمام مسرح المدينة الكبير، أسند ظهري إلى السور المنخفض، أتأمل حركة المارين والقطط السمينة والكلاب الضالة والمخبرين والعاهرات الشقراوات وتجار الأعضاء البشرية وتلاميذ المدارس الذاهبين إلى المعسكرات وموزعي بطاقات دكاكين المساج وسيارات الأجرة و…

عطّل تأمّلي صوت رجل لامس قفاي بنغمته الخشنة: (ما هذه القصة التي سردتها فوق خشبة المسرح وكان الجمهور بين غاف ومأخوذ وراكع ومائع؟ هل تربطك صلة بالمخرج؟ هل تواطأت معه؟ هل أنت ممثل؟ هل أنت مقاتل هارب من جبهات الجهاد؟ هل أنت لاجئ؟ هل أنت وليٌ صالح؟ أم أنك رجل خانتك أمك مع أبيك؟).

…………….

أغسطس 2016

 

 

 

 

اترك تعليقاً