رواية الكبش، الفصل السابع، كان يا ما كان، تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش، الفصل السابع

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

كان يا ما كان..

(1)

(أنت لا تحتاج إلى الكثير من الذكاء لتكتشف قرب مكان سكني منك يا دكتور، أرجو أن تسمعني بلا مقاطعة، وإذا حضر حيوان أو صاحبه، سنؤدي عملنا على أكمل وجه ثم نعود، إذا أذنت لي..).

سبقتني “حياة” إلى العيادة، يبدو أن سلطان النوم جافاها طيلة الليل. لاحظت بوضوح الانتفاخ حول عينيها اللتين لم تكحلهما، ولم تضع أحمر الشفاه، بينما صفّفت شعرها بأناقة ملفتة، وتأنّقت في لبسها كسكان القصور. كانت تحرك كفيها كساحرة، وتنظر من النافذة وهي تتحدث، وكلما التفتت فاح منها عطر ملوكي.

حاولت تفسير شكلها، وأن أجيب على أسئلة مثل: ماذا تعني الفتاة حين تحضر إلى مكان عملها وهي عازمة على مواجهة رجل – مديرها – بلا أحمر شفاه؟ هل يعني أنها تلغي الشياطين من عينيه وشفتيه؟ وماذا يعني اختفاء الكحل من عيون نساء القصور؟ هل يدل على الحزن والانقباض؟ وماذا تعني التنورة الأرجوانية والبلوزة السكرية؟

لم أحاول التفكير بطلبها عدم مقاطعتها، فهو طلب النساء جميعاً حين يكنّ في مرحلة ما قبل الصراخ والدموع والغضب، وفي هذه الحال، من الأفضل للرجل مواجهتهن بابتسامة.

لم يحضر أي حيوان إلى عيادتنا! ولم يتصل أي صاحب حيوان أيضا لمدة ساعتين، من الساعة التاسعة حتى الساعة الحادية عشرة صباحا. لم تنس “حياة”، كعادتها، تحضير فنجاني قهوة ثقيلي البن والسكر، ووضع بعض قطع البسكوست في طبق صغير.

  • سأروي لك الحكاية من أولها، كنّا نعيش في بيت بسيط قبل عشر سنوات، أنا وأمي وأبي وأخواي اللذان يكبراني، الأول يكبرني بعامين والثاني بأربعة أعوام، أمّي سيدة أنيقة من عائلة كبيرة محترمة، بذل أبي كل السبل كي يوافق جدّي على زواجهما. كان زوجها، أي أبي، يعمل في الجيش برتبة ضابط، وبعد زواجه بدأت الدورات العسكرية والترقيات تنهال عليه حتى انتقل للعمل في الاستخبارات العسكرية، وتسلّم منصباً عالياً. بدأت حالته المادية تتطور بشكل مثير، لم يكن قبل الزواج ثريّا، لكنه بعد عامين افتتح متجراً لبيع التحف والقطع القديمة والتماثيل وأنواع السجاد الحريري الأصلي، وأوكل إدارته لشاب أحضره من الخارج بسبب تخصّصه في الآثار والتحف، كان الشاب في الثلاثين من العمر، كانت ملامحه تجمع بين سلالات مختلفة، كنت أنجذب إليه بالقدر الذي أنفر منه. لازمني هذا الشعور حتى لحظة زيارتي البيت الجديد الذي بناه أبي بإشراف الشاب، وسأعود إلى هذه القصة فيما بعد. لقد فتح الشاب لأبي عالماً متشابكاً من العلاقات في داخل البلاد وخارجها، وبعدها بثلاثة أعوام افتتح أبي محلاً لتجارة الذهب والمجوهرات، وانطلقت تجارته بشكل صاروخي وازدهرت وتنوّعت حتى أنشأ شركة عقارات وسجّلها في الخارج، حيث افتتح فرعين لتجارة الذهب والتحف وزاد عليها اللوحات الفنية الأصلية لفنانين عالميين مشهورين، بالمناسبة، أنا أجيد الرسم أيضا. انطلق أبي في تنظيم المزادات على تحف وقطع آثار ولوحات، كان يحضرها تجار وشخصيات سياسية واقتصادية ومهتمون باقتناء كل ما هو قديم من جميع أنحاء العالم. باختصار، دخل أبي قائمة أصحاب الملايين خلال سنوات قليلة..قمت بتحليل كل ذاك وأنا مطرق الرأس أتأمل بصورة حمار جميل في هاتفي، وفي رأسي كانت تنبت الأسئلة كالشوك. تنهدت ونظرت إليها، كانت، لشدة أدبها ولباقتها تنظر من النافذة متحاشية التلصلص على هاتفي: (أعتذر، أرجوك أكملي..) كانت “حياة” لا تزال تنظر من النافذة حين قلت: (أنت ابنة الفارس إذن!).

    لم يكن اكتشافي مهمّا، فسير الحديث كان واضحاً، وربما كان غباء منّي توجيه مثل ذاك السؤال الذي يحمل إجابته في داخله، فقالت: (أبي كان فارساً في الجيش، وشارك في مسابقات كثيرة وفاز في معظمها على صعيد الخيول العسكرية، لكنه هُزم في آخر سباقين، ودخل في حالة اكتئاب انعكست على أحصنته..).

    واصلت “حياة” الحديث بنفس الحماسة والذاكرة المتقدة، كأنني لم أقاطعها بالرسالة الهاتفية ولؤمي، فقالت: (كان وراء النجاحات التي حقّقها أبي ذلك الشاب الذي أحضره من الخارج، ويجب أن أقول لك أنه أحضر أخته التي كانت تصغره بعامين لمساعدته في العمل، فقد أقنع والدي أن حساسية العمل الذي يقومون به يتطلب إدارة لا تخرج عن نطاق العائلة. كانت الفتاة جميلة جدا، وجاذبيتها تأسر أعتى الرجال تمنّعا. خلاصة القول، تزوجها أبي، وانتقل للعيش معها في شقةٍ كبيرة تطل على البحر، ولم نعد نراه إلا مرة واحدة أو اثنتين كل ثلاثة أسابيع أو شهر. واعترافا بجميل أمي وأبيها في تطوره المهني وجزء من ثرائه، لم يشأ تطليقها، ورفض طلبها مراتٍ عدة متذرعاً بالحلال الذي يجيز للرجل الزواج بأكثر من امرأة، ما علينا، اشترى أبي قطعة أرض وبنى عليها بيتاً كبيرا بأجنحة عديدة أشبه بالقصر، أشرف على بنائه وشراء أثاثه وتصميمه الداخلي الشاب العبقري، وحين أصبح البيت جاهزاً للسكن، طلب أبي منّا، أمي وأخوي وأنا، الانتقال للعيش في جناح منفصل، بينما تسكن زوجته الثانية في جناح آخر. لم ترفض أمّي طلبه، وشجعتني للذهاب لتفقد البيت الجديد. نزلت عند رغبتها وذهب بصحبة أخي الأكبر، وكان قد درس السياسة والاقتصاد. كانت المسافة بين البوابة والبيت أكثر من مائة متر، على جانبيها أشجار صغيرة وورود من كل الأنواع والقارات، وفي وسط المسافة نوافير مياه تصعد من أشكال هندسية سداسية الزوايا. أصبنا بالذهول حين دخلنا الصالون الرئيسي الكبير؛ لوحات عالمية معلقة على الجدران، تماثيل وقطع أثرية كنعانية وآشورية وبابلية وسريانية ورومانية تنتشر في الزوايا، أما أرضية الصالون فكانت رخامية مزركشة بنجوم سداسية وأهلّة. كان أخي يهز رأسه بأسف وهو ينقل نظره من زاوية إلى أخرى، وقرر فجأة مغادرة البيت الكبير قائلاً: “أنا لا أسكن في هذا البيت، من الأفضل البقاء والعيش في البيت القديم”. لم أسأله عن السبب، لكنه قال بحزن شديد: “ألم تلاحظي أن هذا البيت قد تحوّل إلى مخزن لقطع أثرية ولوحات لا تُقدّر بثمن؟ هل اشترى أبي كل هذه القطع، أم أنها ما تبقى بعد بيع عشرات القطع الأخرى؟”. وحين وصلنا تحدث إلى أمي على انفراد، لم تعلّق على كلامه واكتفت بمسح دموع سالت بغزارة. وبعد أيام قليلة، حين علم أبي بأمر رفضنا استشاط غضبا وهدّدنا بقطع الدعم المالي عنّا وبيع البيت القديم، لم تستجب أمي للتهديد واكتفت بالقول: “أنت لا تحتاجنا، رائحتنا لا تنسجم مع رائحة البيت الجديد، فلتهنأ بمالك وزوجتك وحياتك..”. تقبّل والدي الأمر على مضض وقاطعنا لشهور، ثم عاد ليطرح موضوع الانتقال إلى القصر مجدّداً، ولم يختلف رد أمي وأخويّ، خاصة الأكبر، وحين أصرّ سأله أخي: “من أين أتيت بكل تلك التماثيل يا أبي؟ يجب أن تكون في متاحف دولها وليست في بيتك، أليس كذلك؟”. اقترب أبي وصفع أخي بقوة قائلا: “أتتهمني بالسرقة والمتاجرة بالآثار أيها المثقّف؟”. وغادر البيت كأن قبيلة من الجن سكنت أعصابه. وبعد يومين أرسل لنا رسولاً يخبرنا ببيع البيت القديم للشاب الذي يدير أعماله. فقررنا الانتقال إلى منزل في البناية التي تسكنها، في الطابق السادس، أنا وأمي في منزل، وأخي الأكبر وزوجته في منزل، وأخي الآخر في منزل ثالث استعداداً للزواج، وخصصنا المنزل الرابع لاستقبال الضيوف..)

    استأذنتها للنظر في هاتفي المحمول، فقد وصلتني رسالة من أحدهم، كانت من المسعودي، حذفتها وواصلت النظر في الهاتف وفكري منشغل بالرسالة التي حاولت “حياة” إيصالها من إتيانها على كل تلك المعلومات، كان يمكنها القول أن أباها لص محترف ورجل فاسد يتعامل مع مهربي الآثار، فهل كانت ترمي إلى أبعد من أبيها؟ لقد حرصت “حياة” على الحديث عن أمها وعائلتها الكبيرة والمهمة، والترقيات التي حصل عليها أبوها بعد الزواج مباشرة، كأنها أرادت القول أن أباها تزوج الحكومة أو قيادة الأركان، وإن أمها كانت خلف تلك النجاحات. وكأنها أيضا حين ذكرت ثراءه الفاحش عند انضمامه للاستخبارات العسكرية، أرادت أن تقول أنه يرشي الأجهزة الأمنية أيضا. تساءلت وأنا أنظر إلى الهاتف عمن يمكن أن يكون ذاك الشاب الذي تظهر في ملامحه سلالات عدة، هل هو عربي يجمع بين المشارقة والمغاربة، أم أنه عربي يهودي، أم يهودي مستعرب، أم من أم فرنسية وأب عربي ويعيش في أوغندا؟ ولماذا “حياة” حاقدة على الشاب؟ وحقد المرأة ينبع من أمرين، أحدهما من رجل لم يتعبّد في محراب جمالها، لكن “حياة” كانت تنفر من الشاب وتنجذب إليه في الوقت ذاته، وهو صراع بين الثابت والمتحرك، بين الجذور وما يمكن أن يشوهها.

  • وماذا عن المسعودي؟

    قالت وهي ترسم ابتسامة ساخرة على شفتيها الرقيقتين: (المسعودي ضابط فاشل في الاستخبارات، يدّعي تفسير الأحلام، استأجر له والدي شقة في الطابق الأول ليراقبنا، ويعرف الشخصيات التي تزورنا، حاول التقرّب منّي وعرض عليّ خدماته في تفسير الأحلام وتقديم النصائح والتخطيط للمستقبل، لكنني أظهرت له اشمئزازا، ونهيته عن التحدّث إلي أو الاقتراب منّي، بل إنني هدّدته بإعلام أبي بالنساء اللاتي يزرنه وعلاقته بالغلمان أيضا..)

  • كنت تقصدين “سمير”؟

    أنا أعلم كل شيء يا دكتور، لديّ وسائلي الخاصة في استقاء المعلومات، اعذرني، إن ما لفت انتباه أخي في البيت الكبير أمر يستحق الحذر ومتابعة كل ما يدور حوله. صحيح أن أبي أبعدنا عن شركاته ومحلاته التجارية وتجارته، بإرادة منه أو من الشاب وأخته، إلا أنه من السهل زراعة العيون في كل مكان، في البيت الكبير والمحلات والشركات، حتى في عمله في الاستخبارات، أليس من السهل لامرأة اقتحام أعتى الحصون؟

    ابتسمت، لم تقل (امرأة مثلي..)، وكانت تعنيها.

  • وماذا عن الغزالي؟

    كانت واضحة جداً، كأنها تحشد أدلة لاتهامي بأمر محدّد، أو كأنها تهددني بفضح أمري إن لم أستجب لطلباتها. هل كانت حياة كاتبة قصص وروايات؟ وهل كل ما جاء في قصتها حقيقة؟ لقد دفعتني للتفكير بالاستعانة بالمسعودي أو “أوفيسر”، أو أن أذهب مباشرة إلى الطابق السادس فأسأل أمها إن كانت تلك القصة حقيقية، لكنني كبحت جنوني بقوة. لم تشغلني قصة أبيها أو أمها أو المسعودي، بقدر ما شغلتني وأثارتني معرفتها بتفاصيل حياتي وتنقلاتي ولقاءاتي ونسائي؟ أستطيع أن أتناسى معرفتها لزياراتي لمطعم الهمنغواي واصطحابي للنساء أحيانا، لكنني لم أستطع تجاهل معرفتها بما دار بيني وبين الفارس في شقة المسعودي، ولا يمكنني التفكير بأكثر من احتمالين؛ الأول، نقل المسعودي لها كل ما دار بيننا، والثاني، نقل الفارس لها تفاصيل اللقاء. ولكن كلا الاحتمالين يسقطان في اختبار الحقائق، فقد عبرت عن اشمئزازها من المسعودي، كما قالت إن أباها- الفارس- لا تربطها به علاقة طيبة! كانت ملامح “دوغي” مختلفة، بدت أرق وأجمل وأكثر جاذبية، وأنفاسها مرتبة وكلامها هادئا، وبدا صوتها أكثر نعومة ومشيتها فيها الكثير من الغنج والدلال. لم أعتقد أن التغيير كان بسبب المسعودي النحيل الضئيل، ربما كان بسبب توقفها عن معاشرة الكلب! عجبت من ملاحظتها التي أوحت بغيابها عن العيادة وعني لشهور. تداركت ورطتها في الكلام وسألتني عن سير العمل وصحتي ونشاطاتي وزياراتي لمطعم الهمنغواي كأننا صديقان منذ سنوات. الإجابة على تلك الأسئلة المتتالية كانت بمفردة واحدة متعارف عليها: (الحمدلله..)،

    قالت: (وهل تحمد الله على زيارتك للهمنغواي المليء بالنساء والمسرات والغناء والرقص..؟).

    وضعت “دوغي” ساقا فوق ساق بعد جلوسها على الكرسي الذي كانت تحتله “حياة”. جالت بعينيها زوايا المكتب وقالت: (لم يتغيرّ شيء، ما زال المكتب على حاله، وأنت على حالتك يا دكتور..).

    دخلت علينا “دوغي” دون استئذان، لا يصطحبها كلبها الأسود. اعتذرت “حياة” على الفور، وعادت إلى مكتبها بشخصية الممرضة السكرتيرة التي تؤدي عملها بصمت وإتقان، ودون تدخل في شؤون المراجعين.

    عقدت جبيني وانهمكت في التفكير، اعترضت تساؤلاتي وقالت: (أنا أحب الغزالي الطفل الذي يفرح لقطعة بسكويت مع فنجان قهوة عند الصباح، وأحب الغزالي الرزين الذي يسعى أن يكون ذاته، وأحب الغزالي المغامر الذي يختبر الشخصيات، وأعلم أنك تسعى لأن يكون لك من اسمك نصيب غير رشاقة الغزال، وهذا ما أردت تطويره حين استجبت بكل سهولة للمسعودي، فتحدثت مع الفارس بحكمة وفلسفة، وواصلت القيام بالدور ذاته في البيت الكبير أو القصر، كما تحب تسميته، لكنني أعلم علم اليقين أنك لن تستمر في هذا الدور، فهو يثقل ضميرك، ويعطل استمتاعك ببساطة الحياة، ويورطك في عالم سيجعلك مهرجا مع مرور الوقت، فهؤلاء يستخدمون الناس الأقل منهم لتقديم خدمات لا يحتاجونها، لكنهم يقنعون الناس أن خدماتهم مهمة، وعليهم تطوير ذواتهم المهنية والشخصية لتحقيق الجودة، وفي الواقع، إنهم ليسوا أكثر من ديكور ضروري، كيف أشبه لك الأمر، نعم إنه يشبه حرص رجل على الظهور مع امرأة جميلة وجذابة، ليستدرج الحديث عن رجولته ووسامته وقوته في جذب النساء، وهذا الرجل قد يفعل ذلك حتى لو اضطر للزواج من مومس؛ يحتقرها في البيت، ويتباهى بجمالها أمام أصحابه، وأنت لست كذلك، ولست نبياً ولا قديسا، أنت تذهب مع النساء ضمن اتفاقية قصيرة الأجل، ولا يتركن أثرا على قميصك، وحين تقابل امرأة تمنحك قلبها وجمالها، ستتصرف كأنك لم تعرف النساء يوماً، ولا أدري كيف كوّنت هذه الفلسفة، والقدرة على مسح ذاكرتك من النساء، ربما لتخصصها لامرأة جديرة بترك أثر على ياقة قميصك، وتتركه علامة كبصمة العين..).

    سألتها بنوايا المباغتة لكنها استقبلت السؤال ببرود، بل زادت عليه ابتسامة شفافة ساحرة عكست دهاءها، وكأنها أرادت القول إن أمري سهل. فقالت: (أتسأل عن الغزالي الطبيب البيطري أم الغزالي صاحب العباءة السوداء أم الغزالي الذي يرتاد الهمنغواي بكل أناقة وهدوء، يتابع الساهرين والساهرات ويراقب فرقة موسيقى الجاز، ويحزن للمغنية الشقراء؟).

  • نعم يا عزيزتي، يكفي أنني لا أراقب أحداً ولا أخطط للنيل من أحد وأبقى مكتفياً بذاتي طوال الوقت، والإنسان جدير بالفرح، أليس كذلك؟قلت وأنا أنظر في أحد الملفات: (لم أقابله سوى مساء أمس، ولم نتحدث كثيراً..)..

    انتقلتْ “دوغي” إلى موضوع آخر خلته مقصدها وسبب زيارتها: (كيف هو المسعودي؟)..

  • في القصر؟

    سحبت نفساً عميقاً من سيجارتها ونفثته ناحيتي كأنها تود قذف كلمات مُرة في وجهي، لكنها لم تفعل، بل بدت متلذذة بتلك المعلومة، وكأن زيارتي لبيت الفارس سر من أسرار الاستخبارات الوطنية والقومية.

    أقفلت الملف بحركة عصبية محملقاً في عينيها الماكرتين، هربت من نظراتي بالتقاطها سيجارة من حقيبتها وإشعالها بولاعة ذهبية، لتعاود النظر إلي وهي تنفث الدخان بأسلوب الغانيات. قالت إنها علمت عن طريق الصدفة عن تلك الزيارة، ولا تعلم ما دار فيها.

  • كيف أستطيع مساعدتك؟ وجدتُ “حياة” تقف بوضوح في غرفة مكتبها وتنظر ناحية “دوغي” بغضب واشمئزاز. لم أقم بأي حركة توحي بوجود شخص يقف خلف “دوغي”.

    واصلت حديثها: (لا أطمع بشيء يا دكتور سوى دخول عوالم أخرى، قال المسعودي إن الفارس يمتلك مزرعة فيها اسطبل وخيول أصيلة، وفي حاجة لمن يوقظ صهيلها، وأظنني قادرة على استنهاض ذاك الصهيل بسهولة، أنت تعلم أن صديقي الأسود ينتمي إلى سلالة عريقة عنيدة، لكنني دجنته خلال ثلاث جلسات، أما الخيل فأمرها سهل وجميل، والفارس غالبا ما يكون عظيماً وهو يمتطي فرسه الأنثى ويضربها على رقبتها بسوطه الناعم، صورة جميلة أليس كذلك؟).

    أطفأت سيجارتها وقالت بأنني أرسلتها إلى رجل مهترئ لا ماء في ركبتيه، ولا عزم في بوله، وإنها صرفت الوقت توقظ أعصابه دون جدوى، وحتى يغطي على فشله بدأ يحدثني عنك بصفتك الرجل الذي أرسلني إليه، وجاءت معلومة زيارتك للفارس عرضاً، فلا تخف، لا أشياء تهمني في كل ما قال، لكنه قال شيئاً أكثر أهمية منك، وعدني بتقديمي للفارس وتعريفي به.

  • ربما..

  • باختصار يا دكتور، أنا لا أثق بالمسعودي لأنني لا أثق بالرجل العنين، قد يخلف وعده وينساني، ولهذا جئت إليك لتذكر مهاراتي أمام صديقك الفارس، وربما لرجل آخر قد تزوره خلال هذين اليومين، قد يكون أكثر صهيلا.. لم تسرع “حياة” بالجلوس مكان “دوغي”. انتقلتُ إلى مكتبها وجلست على كرسي صغير أمامها ومسكت صدغيّ بقوة بسبب صداع عنيف ألمّ بي على إثر تلك المفاجأة القاسية المربكة. لم أكن أفكر بـ”دوغي”، بل باليد التي جعلت دماغي يرتعش، ويسرب قشعريرة لذيذة إلى أنحاء جسدي، أدت نبضات قلبي خلالها رقصة تانغو مضمخة بالإغواء والحنان. لم أتحرّك كأن طير الحب وقف على رأسي وغلفني بأجنحته الدافئة، تذكرت حضن أمي فبكيت. لم تلحظ حياة دموعي إلا حين التقطتُ منديلا ومسحت عينيّ. انتقلت بسرعة في تلك اللحظة وقرفصت أمامي دافعة ذقني إلى الأعلى: (لا تخف، أنا سأنقذك، لن أدعك تغرق، لن أتركك تضيع، لا تبك أرجوك، أرجوك..). مسحتُ على شعرها وطلبت منها النهوض والجلوس خلف مكتبها، كان باب العيادة مفتوحا الأمر الذي يعرّضنا لفضيحة ما. وقفت “حياة” بباب مكتبي كطفلة مذنبة، كانت تطأطؤ رأسها وتشبك أصابع كفيها وتعلّق حقيبة بكتفها في انتظار السماح لها بالكلام. تأملتها كثيراً، نثرت عليها علامات استفهام عديدة تساقطت كلها مع نزول أول دمعة على خدها. نهضت فمسحت الدمعة وقلت: (ما بك يا “حياة”؟ لقد انتهينا من أثر “دوغي” والمسعودي..).

    دخلت مكتبي متثاقل الخطى، وأنا أعيش ذهولا وأكاد أن أترنّح؛ أسرار “دوغي” وخبث المسعودي، ومشاعر “حياة”. اجتمعت الأضداد دفعة واحدة، واحد يغرقني في بحيرة متعفنة وواحد ينتشلني ويجففني على جبال في بستان الشجر الحالم ثم يجمعني في حضن فتاة تظهر لي ملاكاً مرةً، وأخرى تنتصب أمامي كزعيمة لفريق متكامل يرصد مجموعة خطرة من البشر. هل كانت لمستها لرأسي استجابةً عفويةً أنثويةً لحظويةً لدموع رجل، أم أنها كانت تكن لي بعض مشاعر الحب أو الود؟

    احتضنت وجهي ثم أنزلت كفيها وأسندت وجهها على ركبتي وشهقت بالبكاء: (أعلم أنك تعذّبت كثيراً حتى وصلت إلى هنا…).

    أحضرت “حياة” الماء بسرعة. وقفت إلى جانبي ووضعت كفها على قمة رأسي بنعومة الأمهات: ( لا تقلق، اصطحبها المسعودي ليلة أمس إلى المزرعة، ولم يعودا إلا عند الفجر..).

    لم أجبها، اكتفيت بابتسامة ماكرة وأوحيت لها بانشغالي، نهضت ومدت يدها وضغطت بشاهدها على رسغي راسمة ابتسامة عريضة، وغادرت المكتب.

  • لكنكَ لم تنته من “حياة”

  • لا أريد الانتهاء منها، أريدها بكل تناقضاتها..

    هي ليست تناقضات وإنما تشابكات، عجنتني الحقائق والأكاذيب حتى جعلتني أفكر بالفكرة ونقيضها. قلت: (لا أحدَ يُطردُ من أملاكه يا “حياة”، ثم، ألم تقولي أنك ستتولين حمايتي ولن تدعيني أغرق..؟).نهضت إلى مكتبها، غابت لدقائق قليلة وعادت وهي تضع الحمرة على شفتيها والكحل في عينيها: (هكذا أجمل، أم بدون هذه المساحيق أجمل؟). استدارت وجلست خلف مكتبها وقالت إنني بدأت أميل كثيراً إلى فلسفة الأمور البسيطة: (المرأة تحتاج إجابة بسيطة ومباشرة يا دكتور، أما تمويه المعنى فمتروك للمجالس، حين لا يريد المرء طرح رأيه مباشرة.. قل لي أيها الغزالي، ما الذي أردت قوله وأخفيته خشيةً أو احتراما للحضور في القصر؟).

    قلت لها إنها في الحالتين جميلة، وهمست بينما كنت أتأمل لوحة طبيعة صامتة، أن صاحبة اليد التي لامست قمة رأسي تجمع بين الحبيبة والصديقة والابنة والأم ولهذا أيقظت خلاياي، ولكنني أفهم أيضا أن المرأة ليست على استعداد للتخلي عن مظاهر الجمال وظواهره، فهي تسعى إلى تحقيق مجد المشهد الخارجي، وتجذير المعنى في شخصية واحدة، فتلعب دور القديسة والغانية في آن، وتنتظر القصيدة في نهاية المطاف، حتى من رجل لا يجيد كتابة الشعر، وقلت لها إنني أحب قراءة الشعر ولم أكتبه، رغم أن حيوانات كثيرة تثيرة شهية الكتابة وتستفز التأمل!

    ابتسمت بخجل وقالت: (أنت لا تعرف أخي، ولكن لو عرفته يوماً ما، أرجو الاحتفاظ بما قلته لك في سرك..).

    جلست على الكرسي ذاته بخجل وقالت إنها تريد الاعتراف بأمر قد لا يشكل لي أهمية، لكنه بالنسبة لها بالغ الأهمية، أخبرتني أن أخاها هو من طلب منها الذهاب للعمل في العيادة، فقد كان على اطلاع بتاريخ بدء نشاطها: (أراد أن يتأكد من امتداد سيطرة الشاب على العيادة، ومن نشاطها التجاري، إن كنتَ تمارس الطب البيطري أم مهاماً أخرى على صلة بتجارة التحف والآثار وربما الأسلحة والأعضاء البشرية، لهذا التزمتُ الصمت في الشهور الأولى واعتدت عليه بقية الشهور حتى اللحظة. وأعلمك أن أخي هو من اقترح التواصل مع عمي صاحب المزرعة للاستعانة بك. فقد وصلت معلومات لأخي أن العيادة كانت ستُستخدم في تجارة الأعضاء البشرية، وكانوا قد جهزوا خطة لتوريطك، تراجعوا حين علموا بعملي هنا، أو هكذا خُيّل إلي، وبهذا، أكون قد حميتك من حيث لا تدري، ولا جميل لي في ذلك، لقد تدربت على يديك وتعلمت اشياء كثيرة، ويمكنك الآن طردي إن أردت، فأنا جاهزة تماما، ليس لي في عيادتك إلا هذه الحقيبة التي أحملها على كتفي، وفيها قلم حمرة ومكحلة..).

    كلمات كثيرة صادرتها، أولا الديكور الداخلي المستند إلى الزوايا السداسية، كنت أود أن أقول إن الأشكال الهندسية لا تثبت انتماء ولا توحي بهوية، وعلى المغرد خارج السرب مراعاة الطيور والأشجار والهواء، لكنني تساءلت بيني وبين نفسي إن كان التصميم قد دّس بنوايا مسبقة أم لا، وإن كان صاحب البيت انتبه إلى إيحاءات ودلالات التصميم أم أنه أُخذ بجماليات الشكل وتداخل الخطوط وحدة الزوايا. الأمر الثاني الذي كتمته يتعلّق بالقطع الأثرية التي لا تمت إلى المكان بصلة، أي أنها ليست من تاريخه، وأردت طرح سؤال عن طرق اقتناء تلك القطع وأثمانها ووسائل الحصول عليها، لكنني خشيت أن أُتهم بضيق العين والحسد والتدخل في شأن لا يعنيني. أما الأمر الثالث فكان لا بد من كتمانه لخطورته، فقد لمست مساحات مكرٍ شاسعة في الوجوه جميعها، وسخرية خلف النظرات والصمت المصطنع، شعرت أنني كنت أتحدث إلى نفسي، وحضوري كان مجرد إجراء تمهيدي لإجراء آخر قد يكون أكثر خطورة، أما الأمر الأخير فقد كانت لدي رغبة كبيرة لصفع المسعودي على قفاه، لكنني تراجعت، فالرجال المباركين لا يصفعون الناس على قفاهم، ولا على وجوههم، وإنما يقدمون لهم النصائح، ولكن، حتى النصيحة توقفت في حلقي، وإلا لكنت قلت له: “إذهب أيها المسعودي واعمل حارسا لمؤخرة معصومة في مطعم وصالة الهمنغواي”. أخذت على محمل الجد مكان سكنها أما باقي القصة فقد دارت بشكل لولبي في تجاويف دماغي، ولاسيّما طريقة عملها في العيادة وأهدافها. وجادلتُني حول مراميها النهائية بعد أن تأكدت أن العيادة التزمت بعلاج الحيوانات، ولا شيء آخر. (هل أنتَ على عجلة من أمرك يا دكتور؟). قال صوت ناعم لرجل كان يقف في باب العيادة. قلت: وهل تلاحقني إلى العيادة يا سيد سمير، أتريد مجالستي هنا؟هل قابل “حياة” أثناء صعوده إلى العيادة؟ هل دار بينهما حديث؟ هل رمقته بنظراتها الاستعلائية؟هل خفق قلب “حياة” بالإعجاب والنفور في آن حين قابلته في مدخل البناية؟ ذاك هو السؤال الذي اثار غيظي وكراهيتي له، شعرت في ذاك الوقت أنه غريمي الذي قد يستطيع إذابة مشاعر النفور من نفس “حياة” ويستميلها، ويكون بذلك قد حرمني من أجمل ما حصل لي في حياتي، وأحكم سيطرته على العائلة بالنسب. انتهزت فرصة تفقّده لهاتفه المحمول وبحثت عن اسمه في هاتفي وقمت بالاتصال، أجاب شاب على الطرف الآخر بصوت سمير وليونته ونعومته ودلاله: (أهلا بك يا دكتور، اشتقت لك..). ابتسم الشاب الجالس أمامي بخبث ومكر، واستأذن. استدار قبل تجاوزه لباب العيادة: (سررت بالتعرف إليك يا دكتور، وتسعدني دعوتك لاحتساء كأس نبيذ، كأس نبيذ واحد فقط، في مطعم الهمنغواي..)(3)كان علي البحث عن وسيلة أتخلّص فيها من النتانة، فكرت أولا في الذهاب كثور هائج إلى المسعودي فأقتله في اللحظة التي يفتح فيها الباب، وثانيا، أن أستدرج المرأة “دوغي” إلى العيادة فأرش وجهها بالأسيد كي تعود للبحث عن صديقها المهزوم المسكين، ثم أبحث عن سمير وآخذه في رحلة خارج المدينة، إلى الصحراء تحديداً، فأخوزقه على قمة كُثيّب ناعم. ثم أتوجه حاملا سيفي إلى الفارس، في قصره أو مزرعته، بلا عباءة سوداء ولا لحية طويلة ولا بركات ولا لعنات، وأعطيه مفتاح العيادة والشقة وأقول له إن المباركين ماتوا ولا طائل من صناعتهم لتهريب الآثار والاتجار بأعضاء البشر، وقد أقتله طعناً وأنا أصرخ قائلا بأنني سأعود من حيث أتيت، سأمشي على البحر ثانية نحو الرجال المتوحشين الذين طاردوني وهتفوا (قربان.. قربان.. قربان..)، وسأهدد الفارس بالتصالح معهم، ربما حين أعود لهم سائراً على الماء سيركعون كما فعلوا أول مرة، ونعيش معاً في كذبة نودعها السماوات. كان لا يزال أمامي أكثر من خمس ساعات للقاء الرجل الكبير، الذي فكرت مرة بتجاهله وأخرى بقتله أيضا، دون تقدير قوتي وقدرتي على فعل كل أعمال الخير تلك! شعرت بمجرد إرسال الرسالة بدخولي بركة مياه نظيفة، وكنت موقناً في أعماقي من عدم حضورها. لم أكن قد غبت بعد حين سمعت صوتَ أنثى ينتشلني من مرحلة ما قبل الغياب شبه التام: (لا تفتح عينيك، لا تفكر بمن يقف إلى جانبك، وبمن سيركع حتى تتساوى هامته بجسدك الممدد. ففي طريقنا نحو الغيبوبة نحتاج إلى من يركع إلى جانبنا ركوع المصلين على جسد لم يمت بعد. لا تفتح عينيك، سأترك كفّي تحلّق فوق جبينك، لا يفصل بينها وبينه سوى ما يفصل الكف عن موقد جمر في ليالي الشتاء، سأمنحك شلالات ضوئي، لا تفتح عينيك لأنني مغمضة العينين، سأحرك كفّيَّ فوق مسامات وجهك ورقبتك وصدرك وخاصرتك وبطنك وفخذيك وركبتيك وقدميك، ثم أعود مرة أخرى إلى قمة رأسك، سأفتح فيها كوة لأسكب ضوء الصبح ورائحة التراب وجدول ماء، ستسري في شرايينك كدبيب الروح. لا تفتح عينيك، أنا أمك التي ستحتضنك بعينيها، وتشدك إلى صدرها وتقرّب وجهك من رحمها لترى ذاك المولود برائحة الغاردينيا. لا تفتح عينيك، أمك الآن تحضن وجهك، عادت من قبرها كالملاك، محاطة بفراشات الصباح وتراتيل سقوط الشمس في البحر، كفّاها يقطران نوراً وشوقاً وحبّا وحنانا، فمها يبتسم بفرح، احضنها أيها الغزالي، احضنها كما لو أنك ذاهب إليها، ا ح ض ن هـ ا…)لم أبحث عن أمي ولا عن “حياة”، فقد وجدت نفسي مغطى بلحاف، لم أسال من وضعه، ولم أكن موقناً من حضور “حياة”، كان الصوت يشبه صوتها، ورائحة كفيها كرائحة عرق أمي. لم يكن خط يد “حياة”، وأمي لم تكن تعرف الكتابة والقراءة، ثم من أين لأمي معرفة الشيطانة معصومة!أسرعت فاغتسلت وارتديت ثياب المباركين! واجهتُني أمام المرآة للتأكد من صدق كذبها وترتيبها وأناقتها، بدا كل شيء متقناً، إلا أنني أحسست بتلوثٍ ما يزحف من قمة رأسي متجها إلى وجهي وأطرافي، شعرت بشوك ينبت فوق جلدي، كانت رؤوسه المدببة تطل من العباءة واللحية. كنت أدرك منبع ذلك الإحساس، ولو استسلمت له لحرقت العباءة وانتزعت اللحية واأسلمت نفسي لنوبة بكاء، لكنني تماسكت وحكّمت عقلي بمكر طارئ ومستجد، وقررت أمراً ما قد يودي بحياتي أو يدخلني السجن، فالخروج من تلك العباءة بشجاعة نهايته الموت أو الغياب، لكنني تركت فجوة أمل ضئيلة كانت أساس فلسفتي. كنت أشك أن الفارس يعرف حقيقتي، والرجل الكبير يموّه تلك المعرفة، وكل شيء سيظهر بشكل جلي في الساعات القادمة. لم أجد المسعودي في المقعد الخلفي، لم يكن يفصلني عن السائق لوح زجاج مقوّى، لم أنظر في مرآته، كنت أفكر في الموضوع الذي سيطرحه الرجل الكبير، قال السائق كمتلصص على أفكاري: (اسمه التوحيدي).قال: كما أن اسمك الغزالي، واسم صاحبك المسعودي، فاسم الرجل الكبير “التوحيدي..”.سألته: (ومنذ متى تعمل لدى التوحيدي يا سمير؟)هل تسرعت في الكلام؟ يبدو أنه فعل ذلك أيضا، فقد كسر الرسميات والمحاذير وكشف نفسه وكاد أن يتعرّى، ربما تعمّد ذلك، أو ربما كان يعرفني، لكنني كنت موقناً أنه سمير، فهو لم يقل أنه مدير أعمال التوحيدي، بل وصف نفسه وانتماءه وأجواءه، ولم يبد أي ندم على ما قال، على العكس تماما، أدخل في حجرة الراديو قرصا مرناً فانطلقت موسيقى غانجة ناعمة تخللتها تأوهات مجموعة من الرجال، قال: (هذه أحدث قطعة موسيقية تناسبني، وأهديها لزملائي في المناسبات الخاصة، وإذا أردت أهديها لك أيضا!).  برمجت نفسي مذ غادرت الشقة على قتل أي دهشة تطل برأسها من العباءة الملعونة، لن أندهش حتى لو كان سمير الذي تحرّش بي في مطعم الهمنغواي هو عينه الرجل الأكبر، لن أندهش حتى لو وجدت “أوفيسر” في الجلسة يرتدي بدلة ويتحدث اللغة العربية السليمة، حتى لو رأيت معصومة على سجادة الصلاة تحت شجرة حديقة القصر، حتى لو استقبلتني “حياة” داخل القصر عارية مبتسمة بدلال القطط اللئيمة، حتى لو اكتشفت أنها كانت زوجة للمسعودي، لن أندهش من أي واقعة مفرحة أو محزنة، سألتزم الحياد كالآلات الناطقة.. لم يرافقني سمير أو شبيهه، دخلت وحيداً. وجدت نفسي داخل صالة الاستقبال أمام مجموعة من الشباب والفتيات الأقزام أيضا، يرتدون ملابس أنيقة، كان الذكور يرتدون سراويل سوداء وسترات بيضاء، والإناث يرتدين سراويل بيضاء وسترات سوداء، يروحون ويجيؤون في الصالة بحركة منتظمة.أجلستني الصبية القصيرة في الوسط. كانت أمامي طاولة عريضة سطحها رخامي لامع، وعليها صحون عديدة تحتوي على مكسرات وقطع جزر وخيار، وأطباق صغيرة تحتوي ورق عنب وكشري وتبولة وبابا غنوج ومنسف وكسكسي وبرياني.. شكرتها، قررت ألا أنفعل وألا أندهش، وأن أتصرف كعدسة آلة تصوير سينمائية، تلتقط أدق المشاهد والتفاصيل.

    سألتني الصبية بصوت طفولي ناعم: (ماذا أقدم لك يا سيدي؟ شاي، قهوة، عصير، ويسكي، نبيذ، شاي أخضر، عصير طازج، شوربا ساخنة، مشروبات خفيفة.. في خدمتك يا سيدي..)

    اقتربت مني شابة وجهها جميل وقادتني إلى صالة أخرى أصغر، أشبه بمكتب كبير، يحتوي على طاولة ضخمة مصنوعة من الخشب المحفور بعناية على شكل رؤوس أسود، وأرائك موزعة بطريقة تجعل الجالسين في مواجهة طاولة المكتب.

    استمرت السيارة مندفعة لتقف أمام باب القصر الداخلي، خرج منه كائنان بشريان صغيران، اعتقدت أنهما طفلان، وأنها طريقة جديدة للترحيب بالضيوف، اكتشفت حين اقتربت أنهما شابان قزمان، ذكر وأنثى، ابتسما وانحنيا حين مررت بهما.

    فُتحت البوابة الضخمة تلقائياً، ظهر على جهتيّ اليمين واليسار رجلان ضخمان طويلان أصلعان، كانت عضلات أذرعهما وصدريهما نافرة بوضوح، كان كلٌ منهما يرتدي بلوزة وسروالاً أسودين،ونظارة سوداء أيضا، لم يدهشني وضع النظارة في الليل.

    كظمت غيظي، ولو كان معي شريطاً لاصقاً لوضعته على فمي، فمن غير المعقول أن يكونوا ثلاثة توائم، رغم أن هذا السمير السائق يشبه ذاك السمير الذي قابلته في صالة الهمنغواي، وأجزم أنه هو ذاته بلحمه وشحمه وصوته وغنجه وجسده، وكلاهما يشبهان السمير الذي ادعى أنه يدير أعمال التوحيدي، وتصرّف برعونة لم تدهشني، وكما يقال (كلب الزعيم زعيم).

    قال باندهاش: (وهل تعرفني أيها المبارك؟ أنا لا تعرفني سوى فئة قليلة، وفي نطاق محدود، وهم بعيدون كل البعد عن عالمك المثالي الفلسفي التقي الملتزم، عالمي غريب يضج بالدهشة والمغامرة والبشر غير العاديين والحيوانات والنساء الجميلات والأكباش!).

    لم أقصد إبداء التعجب من اسم الرجل الكبير وإنما من وجود سمير يقود السيارة إلى قصر التوحيدي.

    لم يكن الصوت غريباً، نظرت في المرآة: (كيف؟).

    في الساعة السابعة وأربعين دقيقة غادرت شقتي، أصبحت خلال دقائق داخل سيارة شبيهة بتلك التي أقلّتني إلى قصر الفارس. كان عليّ الإسراع حتى لا أُتهم بالإهمال واللامبالاة.

    (4)

    لم أصدق حين رأيت عقارب الساعة تشير إلى السابعة مساء. دُهشت حين عثرت على ورقة صغيرة على الطاولة الصغيرة: (اغتسل قبل ذهابك، لن أمنعك من مقابلة الرجل الكبير، ولكن كن أنت أيها الغزالي، سيجلس الرجل أمامك كما فعل الفارس، وستكون هناك مزهرية فيها ثلاث وردات أيضا، كتلك التي في بيت المسعودي، انظر إليها وأنت تحدثه، ثم قدّم له مفاجأة عمره، سيدعي الدهشة، وفي الحقيقة لن يكون كذلك، فهذا الرجل لم يندهش في حياته إلا عندما عاشر معصومة في الاسطبل، وأمرها بدهن مؤخرتها بالعسل وإطلاق نحلة في المكان،، وهذه قصة أخرى، كن أنت..) .

    سالت الدموع دافئة على طرفيّ وجهي، امتلأت عيناي بماء نز من عينيّ أمي، فتحتهما، نهضت بإحساس من خضع لعملية تخدير لساعات.

    كانت محاولة دنيئة مني باختيار الفتاة التي ظلت تراقبني خمسة شهور للتأكد من طبيعة عمل العيادة، وكان احتمال استجابتها ضئيلاً أو معدوما، لكنني سلّيت رحلتي نحو غيبوبتي باستعادة “حياة” الأنثى، التي استيقظتْ فجأة على رجل تريد التواصل معه عاطفيا، بلغتها الحاملة لأمواج الدلال والرقة.

    كانت الهواجس قد عبأتني برائحة أفيونها وبدأ جسدي يهبط نحو الظلام السحيق، في تلك اللحظة بين الغياب والغيبوبة تذكرت “حياة” فنهضت كالملسوع، اعتقدت أنها الوحيدة التي يمكنها تطهيري وإعادة الغزالي الذي أعرفه إلى حيواناته البريئة، لم أتردد في إرسال رسالة نصية عبر الهاتف: (أنا قذر وفي حاجة لمن يغسلني، أحتاج كفك الصغيرة على قمة رأسي لتسحب العفن الذي أخذ يستوطنني..).

    وصلت شقتي أو “شقي” كما تصفها حياة، ولم أكن قد توصلت بعد إلى طريقة للتطهّر، كنت أهجس بالقتل حتى فاحت رائحة الدم من خلاياي. تركت الباب مفتوحاً حين اندفعت كقرد مخذول وألقيت جسدي على الأريكة، جسدي الذي كانت تثور تحت جلده فقاقيع بركانية.

    طريق العودة إلى الشقة لم تعد كما كانت، خَلَتْ من التفكير بالحيوانات وأمراضهم ومشاكلهم وأمزجتهم الغامضة. في ذهابي وإيابي صرت كحمار يحمل أسفارا من الهواجس، أرميها مرة في مرحاض الشقة وأخرى من نافذة العيادة، فقد اكتشفت أن الكلام الملوّث ينتن أيضا، صرت أشم رائحة العفن في الشقة ومع الهواء القادم من النافذة، وخشيت أن يبدأ بالتسرب من مسامات جلدي، فالهواجس ليست أكياسا ورقية ولا فضلات كلاب وحمير وقطط يمكن أن تجف أو تذوب بفعل عوامل الزمن أو توحّش الإنسان، فنحن ندّعي إتلافها بينما تقوم هي بالالتفاف والسكن والتمركز في دهاليز الدماغ أو القلب أو الرئتين أو تحت الإبطين أو بين الأفخاذ، وتنفث رائحتها مع أول جحوظ للعينين أو انتفاخ في الشرايين، وربما يحدث هذا أمام “حياة” فتنفر منّي إلى الأبد، وقد تقول: (رائحة هذا البيطري أضحت كالبهائم..).

    شكرته وأنا أتأمل من النافذة، محاولا تفسير كل ما حدث، لكنه جعلني اقف مُستفَزاً حين قال: (قد ترغب في مقابلة الكبش المرأة القربان مرة ثانية..). وأسرع في الاختفاء..

    رحبت به وأعلمته أنني طلبت رقم هاتفه عن طريق الخطأ، وعبرت له عن سروري بسماع صوته.

    لم أشك لحظة واحدة في شخصيته وشخصه، كان ذاك الشاب الذي تطفّل على طاولتي وطلب الجلوس محتسياً من ذات الكأس الذي ارتشفت منه معصومة، وتبعني خارج مطعم وصالة الهمنغواي ليقدم لي بطاقته التعريفية الخاصة.

    قال دون توجيه أي سؤال له: (أنا مدير أعمال الفارسي، أدير محلات التحف واللوحات ومتاجر الذهب..).

    رسم عقدة في وسط جبينه ونفى أن يكون قد قابلني في أي مكان، وأنه رسول الرجل الكبير الذي يدعوني للحضور في الساعة الثامنة مساء. لم يحدّد المكان واكتفى بالقول إن سائقاً سيقلّني من مكان سكني، وعليّ انتظاره في الساعة السابعة وخمسةٍ وأربعين دقيقة أمام البناية، فالسائق لن يتصل بي ولن يصعد إلى شقّتي. وعلل الشاب حضوره إلى العيادة تنفيذا لتعليمات الرجل الكبير القاضية بتبليغي مباشرة.

    لم أجبه، فأعطى لنفسه الحق في الجلوس قبالتي على مكتب “حياة”. كان يضع على رأسه قبعة رعاة البقر الأمريكيين لونها بنّي، ويرتدي سترة سوداء تحتها قميص أبيض بياقة يمتد طرفاها حتى حدود كتفيه. لم يكن سوى سمير بهيئة مختلفة.

  • (2)

    لملمت “حياة” أشياءها القليلة والبسيطة عن سطح مكتبها ووضعتها في حقيبة أنيقة، ثم وقفت خلفي وانحنت على قمة رأسي فقبلتها وغادرت بصمت حزين. لم تحدثني بروح الفتاة التي تتدلل على شاب، لم تقل: (هل ستتصل بي بعد لقائك بالرجل الكبير؟). لم تقل شيئا، ربما أدركت أنه حين تنكشف الأسرار يتحول الحديث إلى تحايا روتينية، وربما إلى حوارات باطنية لأسرار أكثر عمقاً. فماذا ستقول فتاة أصبحت واضحة الانتماء والأصل والسكن.

  • هل سيتأخر السيد؟

    أطل سمير بهدوء وأدب، تأكدت أكثر من شخصه، تذكرت تلك العلامة التي تشق حاجبه الأيمن بخط معقوف. تقدّم مني، انحنى وقال بصوت خافت: (نعم أنا هو.. لا تقلق يا دكتور.. سيحضر السيد حالا..).دخل التوحيدي يرتدي بنطالا قصيراً وبلوزة فضفاضة، وخفين مصنوعين من الجلد الأصلي، هكذا خمّنت، كانت تتقدمه فتاتان قزمتان وفي يد كل منهما مبخرة ينبعث منها دخان اللبان المحروق، كانت تزفانه كانه نجم كرة قدم أو عريس كان يمارس الرياضة العنيفة، أو أي شيء آخر لا يمت للسياسة بصلة. انتظرت ما سيقوله بعد أن مزج بين الشخصيتين؛ البيطري وصاحب العلم والهيبة واللغة.. جلس على كرسيه الفخم وأشعل سيجاراً فاخراً، فسارعت صبية كانت تحمل صينية عليها كأس فيه سائل أصفر وثلج، التقطه وتجرعه دفعة واحدة، ثم أشار لها بشاهده نحوي فعادت وهي تحمل ذات المشروب، تذوقته مدّعيا جهلي بطعم الويسكي، فعاجلني بالقول: (لا تدّعي الاشمزاز من رائحته، أحببت أن نتساوى في المنكر كي نتساوى في الفضيلة، فالصداقة المؤسسة على اللهو وتذوق أطايب الدنيا لا تتخللها المشاعر المريضة، الشاربون النبلاء مهيؤون للصعود إلى الفرح والنقاء الروحي، وصداقة مؤسسة على الفرح لا تنتهي بحادث صغير. فأنا لا أعتبر لقائي بك في بيت الفارس هو اللقاء الحقيقي لأنه كان ملوّثا بالزيف والتصنع، شأنه شأن العلاقات البروتوكولية، كلها كذب ونفاق وعواطف معدنية، وكلمات تتكرر، لكنني أعترف أنك كنت ذكياً بما يكفي لقول ما عندك دون خوف أو وجل، رغم أنك كنت تعلم إلى أي طبقة ينتمي الحاضرون..).أزحت غطاء الرأس، انتزعت اللحية المستعارة، ونهضت فألقيت العباءة جانباً، وقلت بصوت خالٍ من الرعشة والاهتزاز والتردد: (قال لي أبي حين أوصلني إلى المدرسة لأول مرة: (كن أنت ولا أحد غيرك أيها الغزالي، وإني وإن وضعت على كتفي عباءة الحكماء وألصقت لحية حول ذقني وشاربي، إلا أنني حرصت على المحافظة على وصية أبي، الرداء إن كان عسكرياً أو مدنياً نحن الذين نرتديه، ولكن ذواتنا هي التي ترتدينا، ولهذا، أحببت قدومك بسروال قصير وبلوزة رياضية، لكنني لم أحب مجموعات الأقزام التي تتحرك في القصر، لأنها ذكرتني بقولٍ غارقٍ في القدم: “ما تعاظم أحدٌ على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه..”، أقول هذا بنقاء سريرة..). فقلت: (يبدو أنك حاولت أن يكون لك من اسمك نصيب..).. قلت لأحد الأقزام القريبين مني: (صب لي كاسين أيها الوحش..).أشار فجأة باصبعه الطويل نحوي وقال: (أنت، أنت الآن تؤمن على يدي…).

    كان التوحيدي قد احتسى أكثر من خمسة كؤوس من الويسكي أثناء حديثنا، وفعلت الشيء ذاته أيضا، فظن كل واحد منا أن الآخر قد ثمل، وأجاز لنفسه التفوه بجرأة بالترهات.

    حملتهما وتقدمت من التوحيدي فأعطتيه أحدهما وقلت: (ليس خوفاً منك، ولا من مصاصي الدماء الذين يحيطون بك، لكنني أحببت هذا الطقس الأصفر، لنشرب نخب الصداقة، ولتعلم، أنني المبارك الوقح، والعالم الجاهل، والطبيب الشافي القاتل، ولتعلم، لم أجب البحار ولا البوادي، أنا من أرضك وماضيك ومستقبلك، أتقن اللغات القديمة والحديثة، سأعلمك فنون مكر لم تختبرها طيلة حياتك، مكر الحيوانات يختلف عن مكر البشر، هل نظرت في عيني ذئب في حياتك؟ أنا فعلت؟ هل لاعبت ثعباناً ساماً شرساً؟ أنا فعلت. هل جعلت كلبا يضحك؟ أنا فعلت. هل عاشرت معزاةً؟ أنا فعلت.. سأزيدك من الشعر ابياتاً أيضا، لقد آمن العشرات على يدي، فهل آمن أحدهم على يدك؟).

    فقال: ليس (بالعلم والمعرفة فقط وإنما باليتم والشقاء أيضا، وهذه قصة طويلة، ولكن لا أمانع في سردها باختصار شديد، لقد نشأت يتيماً بعد أن قُتل أبي في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، كان عمري سبع سنوات، ثم تعرضت أمي بعدها بأسبوع لحادث سير ونفقت على الطريق كبقرة شاردة، أقول هذا لأن عربة عسكرية صدمتها وواصلت سيرها، لم تكن تحمل أرقاما، ولم يجرؤ أحد التقدم نحو أمي إلا بعد اختفاء العربة، نقلها اقاربها إلى المقبرة مباشرة، كان عجلات العربة قد مرت عليها. ولك أن تتخيل طفلا في السابعة خسر أباه وأمه خلال أسبوع، لم أكن أعرف معنى الموت بدقة، إلا حين حضر أحد أفراد المؤسسة العسكرية واصطحبني إلى مدرسة عسكرية داخلية لأبناء الشهداء ليعتنوا بي. في الليلة الأولى بكيت كثيرا؛ شعرت بالصقيع، وارتجفت طوال الليل، وقررت بعدها ألا أبكي طوال حياتي، ولا أتوقف عند بكاء الآخرين، وتلك قصة قد أحكيها لك لو اتفقنا على التعاون، ولا أطنك سترفض، لا أحد يدخل هذا القصر ويمارس الرفض، هل ترى هؤلاء الأقزام، أنا اخترتهم بعناية، ودربتهم حتى تحولوا إلى وحوش، قد يتحول أحدهم أو إحداهن بين لحظة وأخرى إلى مصاص دماء، فيكشر عن أنيابه ويطير ثم يغرزها في رقبة الضحية، فلا ينتهي حتى يرتوي..).

    أدهشني حين سارع بالقول: (والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين..)

    فهمت من إشاراته أنه يطلب صداقتي، وأننا سنلتقي كثيراً في مقبل الأيام. تململ الطبيب البيطري في داخلي مستنكراً تلك القفزات الشبيهة بالمعجزة أو الكذب، وكاد أن ينهق لولا أنني دلقت السائل مع الثلج في جوفه. كان تأثير البيطري أكبر مما اعتقدت، تمرّد على المبارك في مجازفة خطيرة، كأنه كان يعلم أن التوحيدي يعلم كل شيء.

    انفصلت الفتاتان واستدارتا. نهضت للسلام عليه فصافحني مبتسماً وتوجه مباشرة نحو مكتبه وهو يتحدث بصوت مسرحي: (أهلا بك يا دكتور، أهلا بالغزالي، جبت البحار والبلاد حتى وصلت إلينا لنستفيد من علمك ولغتك وشخصك وهيبتك، نأمل أن يتحقق التعاون بيننا بلا مشاكل…).

    سقط دور العباءة واللحية البيضاء والهيبة والرهبة والرزانة، عرفني سمير، ولا شك أن التوحيدي كان على علمٍ بشخصي، لكنني لن أبدأ بكسر اللعبة، واعتمدت على دوره وانتظرت للتعرف طريقته في كسرها.

    رفعت الصبية كتفيها، وضغطت على شفتيها ورفعت حاجبيها، كانت ترسم على وجهها ابتسامة خفية.

  • اسمع أيها الغزالي، أريد أن أطلب منك طلبا عليك تنفيذه لأنك كنت ستطلبه مني قبل مغادرتك، أعد العباءة على كتفيك واللحية لوجهك، وحاول نسيان ما احتسيت ونكران ما تلفظت، فما تجرعناه لم يكن ويسكي بالمعنى الحقيقي، كان سائلا بنكهة الوسكي، كلانا ادعى السكر والثمالة، وكلانا قال كلاماً بذيئاً وكاذباً، إنها لعبة الفلاسفة والممثلين والأشقياء والسياسيين، لم أكن يتيما ولا فقيراً ولا قاتلاً، وهؤلاء الأقزام من أطيب ما خلق الله، أتسامر معهم كلما ضقت من طولي فأجدني على مقاس هاماتهم، ويتسامرون معي فيجدون أنفسهم أطول مني، وكلانا يلعن جيناته العبثية كلما تجلّى الفرق. واعلم أيها الغزالي أن قيمة الناس لا تُحسب بالسنتمترات، إنما بما تخفيه الفكرة المختبئة خلف العين، لا أريد أن أتفسلف، فقد فشلت في دراسة الفلسفة، وحرقت كل الكتب المدرسية ودفاتر الواجبات المنزلية، ودخلت الكلية الحربية، وهكذا.. أعلم أنك على استعداد للتعاون، فانتظرني في منزلك، واستقبلني بهذه الثياب، أنا أفتقدها، ثم أن دورك سيكون في تلابيبها، ستكون المبارك الذي يظهر ليبارك أعمالنا في المساجد والصحف والقنوات التلفزيونية، وستعود إلى البيت ثم تخرج إلى عيادتك بهيئة الطبيب، فلا أحد يعرفك، ولن يتابعك أحد، ألا يستحق من وهبك “حياة” أن تقول كلمة حق تبيّض بها خيره وأمواله التي أصبت شيئا منها، وتجمل قصره الذي يشوهه الآخرون! أنا وهو واحد أيها الغزالي، وسيكون الإعلام الرسمي كله في خدمتك، فارحل…جلس على طاولة مكتبه، بل اضطجع قليلا وهو ينظر إلى الباب، وظننته سيأمر بفتحه لدخول قزم شرس، لكنه قال: (أنت تعلم أن باستطاعتنا إيداع هؤلاء في السجون، واعتقال الأسماء الحقيقية والوهمية، لكننا أذكى منهم، سنلعب معهم لعبة حرية التعبير، أما حين يحين الجد، فإن بإمكاننا إقفال نوافذهم وحساباتهم الإلكترونية كلها، ونخلق معارضة أخرى.. ثم أن حجمهم قليل جدا، ويمكننا احتوائهم، فصورتنا زاهية كما ترى..)

    قلت بجرأة: (أرجو ألا تكون قد بالغتَ في تقييمك، فأنت لا تعلم متى تصبح الكبش الأضحية..)..

    أرادني الرجل الكبير الذي بدأ يصغر شيئاً فشيئا، أن أكون مسحوق غسيل، أرغي وأزبد وأتحول إلى فقاعات تهاجم القذارة التي علقت بالفارس وبطانته ومرؤوسيه، وأن أحك لساني النظيف بجلده، وكنت على دراية تامة من الاستغناء عني أو تصفيتي عند إتمام مهمتي أو تعثرها، أرادني أن أكون كبش العيد أو القربان أو المحرقة. ولهذا تعمدت إطالة مكوثي لأناقش مواكبته لما كان يحدث في محيطه، وقلت له: (إنه الإعلام الرسمي الذي لا يشاهده أو يصدقه أحد، إنه في واحد والحقائق في واد آخر، فماذا لو خرجت شياطين الوادي الآخر، وهي تخرج يوميا في صحف المعارضة، ومواقع التواصل الاجتماعي، بأسماء حقيقية وأخرى وهمية، وترمي المعلومات والحقائق أمام الخلائق، هل يستطيع العبد الفقير إلى الله وكلماته مواجهة السيل المتدفق؟

  • لا تقلق، افعل ما نطلبه منك، وثق أن كل الأمور تحت السيطرة، فارحل يرحمك الله.. أنت تشعرني أن السكين تلامس رقبتي..).

  • لن أرحل قبل أن أفرغ ما بجوفي من مكر، كنت أعلم أن السائل لم يكن خمرا حقيقياً، فهذا لن ينطلي على زائر الهمنغواي الليلي، لكنني تعمدت تقيؤ ذاك الكلام حتى تقتلني، ولن أشكرك على عدم قتلك لي، ولن أرتدي العباءة هذا المساء، ولكنني سأظهر في الأماكن التي ترغب ريثما أسدد قيمة العيادة للفارس، أما “حياة” فلا طاقة لي على تحديد قيمتها، فهي أكبر من أن تُثمّن، هذا ما اشعر به حتى الآن، وقد يتغير الأمر يوم غد، كل شيء يتحول أيها التوحيدي، سمير يتحوّل، والمعصومة تتحول، ودوغي تتحوّل، وأنت تتحول وأنا أتحول، ومن يدري ما تخبؤه الدقائق القادمة، قد أصطحب سمير إلى البيت، وقد تجعل أحد أقزامك يقفز على ظهري وينشب أنيابه في رقبتي ويبدأ بامتصاص دمي، لقد قلتَ الحقيقة أيها التوحيدي، هؤلاء الأقزام وحوش ترتدي مراييل سوداء وبيضاء، فلا تظهر بمظهر الحكيم، ولا تتراجع عن ما أبدعه الخمر المغشوش في ضيوف النعوش..قبل منحي موافقته قال إن لديه سؤالا عليّ الإجابة عليه بصراحة: (هل ضاجعت معزاة أيها الغزالي؟).

    قلت مباشرة: كلا، لكنني نظرت في عينيّ ذئب!

    وقف التوحيدي حائراً غاضباً مبتسماً، احتشدت في وجهه ملامح المكر جميعها حتى ظننته ذئبا، وانبسطت ملامح الطيبة حتى ظننته سيبكي. عاجلته وهو يتأرجح بين شعورين بطلب لم يرفضه؛ الخروج وحيداً من القصر، والعودة وحيداً إلى الشقة، وأن يتركني وأقزامه عشر دقائق وحيدا، أغمض خلالها عينيّ وأجري إحلالا للمشاهد، فأمحو الأقزام والتوحيدي والكلام والخمر المغشوش وأثاث القصر، واستبدلها بالغزالي الذي يسير على الماء.

قبل منحي موافقته قال إن لديه سؤالا عليّ الإجابة عليه بصراحة: (هل ضاجعت معزاة أيها الغزالي؟).

قلت مباشرة: كلا، لكنني نظرت في عينيّ ذئب!

 

اترك تعليقاً