رواية الكبش، الفصل السادس، حياة، تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش- الفصل السادس

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

حياة

(1)

(لا يهمني ما سيحدث بعد الآن أيها الغزالي العبقري الداهية، فحين يتنازل صاحب أحلام، من وزن الفارس، عن مفسّر أحلامه يكون على الثاني الانسحاب بعيداً، وبعيداً جداً، وربّما عليه التوقف عن ممارسة موهبته أو دراسته أو مهنته أو دوره أو لعنته أو نفاقه، اختر الوصف الذي تشاء لي، لقد اختارك الفارس وانتهى الأمر، أدركت ذلك من وداعه البارد لي عند باب البيت، وإسراعه في هبوط الدرج، وقبل ذلك من إصغائه لك وهو منتشٍ، لن تكون مفسّر أحلامه، هو أذكى من أن يوظفك بهذه السرعة لتلك المهمة الساذجة، فأنت لم تكن تفسر أحلامه بالقدر الذي تعطيه مفاتيح السعادة والانتصار في حروبه مع عدوه ومع النساء أيضا. أعترف الآن بالفشل الذريع، ولن أوجه إليك تهمة خيانة صديق، أنت لم تخنّي، وإنما قمت بواجبك على أتم وجه، وباحتراف أذهلني وأدهشني، كنت صادقاً وحكيماً وصاحب بصيرة قوية ولغة نافذة، لقد تجاوزتني بخطوات كثيرة، أنا الذي وقفت بغباء عند حدود أحلامه التي لم يقتنع بتفسيراتي لها، على كل حال، تلك هي حدود قدراتي، ولهذا سأنفي عن نفسي صفة الغباء، لو كنت كذلك لما استطعت إدخالك في عوالمي، وهنا لن أعترف لك بشيء يكشف لك الغموض الذي تعرضت له في أماكن كثيرة، في شقتك والهمنغواي وحديقته وسطح البناية وغرفة الحارس “أوفيسر”، ولكن عليك الحذر يا “صديقي” من الفارس والطبقة التي ينتمي إليها، سيرميك خارج عالمه عند أول خطأ ترتكبه مهما صغر حجمه وشأنه. لقد كان رحيما بي حتى ليلة أمس، لكن لا يمكنني التنبؤ بما يمكن أن يفعله، فلا تفعل أمراً يجعله يظن أنني كنت أتحايل عليه، حتى لا يغضب، غضب الفارس قاتل، النفي أقل إجراء يمكن اتخاذه، ولهذا يا “صديقي” قررت الرحيل إلى جهة بعيدة جداً، ولن أترك لك أي عنوان أو رقم هاتف، لقد جمعتنا الصدف وفرقتنا قرينتها.

وأخيراً، عليّ أن أحذرك من الحارس “أوفيسر”، لا دلائل لدي على سوء نواياه، ولا دلائل لدي على حسنها أيضا، عيناه ليستا بريئتين، تجواله الليلي بين طوابق البناية ليس بهدف السهر على أمن السكان، تواجده عن طريق الصدفة أمام شقتي وشقتك وشقة الفتاتين في الدور السابع، وشقة فتاة لا أعرف اسمها في الدور السادس ليس صدفة. لقد انتقلت بين عشر بنايات خلال العشر سنوات الماضية، وخبرت عشرة حراس، وكان “أوفيسر” استثنائياً في حديثه وتحركاته وعلاقاته مع السكان، يكاد يكون صديقا مع الجميع، العائلات والأفراد، متزوجين وعزّاباّ.

اقول هذا الكلام رغم أنني سأترك هذه الرسالة لديه ليوصلها إليك، لقد أقفلتها بصمغ قوي يجعل دفتي الرسالة تلتصقان، ثم أنني ألصقت الرسالة من الداخل بالمغلف، وكتبت عليها من الداخل أن تقوم بقص حوافها الأربع، ووضعتها في ظرف أكبر، أي رسالة داخل رسالة، وبهذا سيكون أي عبث بها مفضوحاً..

أرجو لك حياة ناجحة أيها الطبيب البيطري الذكي.. “التوقيع: المسعودي”).

(2)

كانت الليلة الأولى التي أنام فيها بهدوء المطمئنين المباركين منذ أسابيع ، رغم أن ما حدث في بدايتها لم يكن يبعث على الاطمئنان، كانت عينا المسعودي تفيضان قلقاً وتوتراً وحنقاً وحسداً، لم أقصد أن أكون نجم الجلسة ولا مذنّبها، ولا احتلال مكانة المسعودي في قلب الفارس، وكنت قد قررت قبل هبوطي إلى الدور الأول أن تكون الجلسة الأولى والأخيرة، وأن أنفذ وصية أبي لي في اليوم الأول لدخولي المدرسة (كن أنت أيها الغزالي..)، فطبيعة عملي وطبعي وشخصيتي لا تتفق وكل ما قُيّض لي معرفته من تكوين جسدي ونفسي، وما يضمره من أهداف، فما وصل إليّ محاولات شتّى لتطويعي لتنفيذ ما يمليه عليّ فقط، أن أؤدي دور الرجل المبارك كلما زاره رجل مهم أو زار امرأة من علية القوم، وأن أكون المتهالك المتهافت كلما أراد الاستحواذ على شيء أو شخص بالعاطفة. وأنا لا أصلح لأيّ منها.

استيقظت باكرا بانتعاش من نام عشر ساعات متواصلة دون أحلام أو كوابيس، مارست لأول مرة بعض التمارين الرياضية تثاءبت خلالها كما يتثاءب حمار كسول مرات عديدة، وتناولت فطوري وارتديت أجمل ما أملك من ثياب وتعطرت كعاشق. لم أعش هذه الحالة بفرح غامر منذ مراهقتي الأولى، حين خُيّل إليّ أنني أعشق فتاة تقابلت نظراتنا عند باب مدرسة الساحل الثانوية، لم تكن لدي خيارات من الثياب أو العطور، استندت على صدقي والقليل من وسامتي ورشاقتي، وتعمدت البحث عنها في اليوم التالي وأنا أرسم ابتسامة خجولة على وجهي، وحين وجدتها تقابلت عينانا للمرة الثانية، لم أقرأ في عينيها انتظاري، صوَّبَت نحوي نظرة خاطفة فيها من الضيق أكثر مما فيها من الراحة، فنفشت شعري الطويل، ولم تدخل سمعي طيلة اليوم الدراسي كلمة من شروحات المدرسين، ولم ترسخ في ذاكرتي لقاءات التلاميذ ولا طعم سندويش حشرته أمي في حقيبتي.

منذ ذلك اليوم، لم أهيء روحي للقاء فتاة حتى لو تقابلت عيوننا مع ابتسامات وإعجاب وإشارات وغمزات ولهفات، شيء ما في تكويني النفسي كان يطفو على وجهي يجعل الفتيات ينظرن إلي باستغراب، بعد تخرجي من الجامعة أدركت كانت فوضى الأحاسيس وتشابك الأفكار واللعنة على الوجود تنعكس على شكل عقدة نافرة بين حاجبي، فلم أعد المحاولة إلا صبيحة ذاك اليوم الذي استيقظت فيه نشطاً متفائلا متقافزاً.

انتظرت المصعد دون تذمّر وهبطت، كان “أوفيسر” عند باب البناية، انتفض بحركات سريعة حين شاهدني، وتوجه إلى طاولة صغير والتقط مظروفا أصفر وعاد بالرشاقة ذاتها قائلا لي: (صباح الخير يا دكتور، طرق المسعودي بابي في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة أمس وأوصاني بتسليم هذا لك..).

تناولته وتوجهت إلى سيارتي، قدتها نحو العمل غير قلق بشأن محتويات الرسالة، وقلت ببساطة المطمئن إنها قد تكون رسالة شكر على أدائي، أو تضم بعض المعلومات المهمة الخاصة بالفارس تمهيداً لمقابلته في المساء.

لم تكن “حياة” قد وصلت بعد إلى العيادة، فتحتُ الرسالة بحذر وفق شرحِ المسعودي وقرأتها، لم أقلق لقرار المسعودي معللاً الأمر بالحرية الشخصية واختيار طريقه ومستقبله وحماية نفسه، لكنه تمكّن من زرع الشك في “أوفيسر” والفتاة التي تقطن في الطابق السادس والفتاتين في الدور السابع. تجاوزتها جميعاً حتى لا تختلط بملفات الكلاب والقطط والخيول.

كان ضوء سقف المكتب يبعث نوره بشكل متقطع، فسحبت ضوءاً آخر من درج المكتب وصعدت الطاولة، بدلته وقفزت. سمعت تصفيقاً ناعما عند باب مكتبي.

قالت “حياة”: (ولك من اسمك نصيب يا دكتور).

تبادلنا تحية الصباح وسألتها عن نصيبي من اسمي فقالت: (قفزت برشاقة الغزال..)

كانت “حياة” قد وضعت مساحيق تجميل خفيفة على وجهها وسرّحت شعرها فجعلت بعض خصيلاته تنسدل على جبينها لتظهرها كفتاة ذاهبة إلى مدرستها الثانوية. تذكرت الفتاة التي قابلتها عند باب المدرسة قبل عشرين سنة، لم أدر من منهما كانت الأجمل، لكن “حياة” بدت أكثر استعداداً لانتظاري في اليوم التالي؛ فقد حضرت قبل موعدها، واهتمت بكحل عينيها وأحمر شفتيها وثيابها وعطرها، لم يسبق أن فعلت ذلك من قبل، أو ربما كانت تمارس تلك الصنعة النسوية ولم تستحوذ على انتباهي.

شرعتُ في وصف طلّتها الجديدة التي انعكست على نغمة صوتها وإيقاع خطوتها. وحرصاً على عدم جرح حضوري الذهني قالت إنها كانت بين يوم وآخر تضع الكحل وأحمر الشفاه وترتدي تنورة قصيرة وتقوم بتصفيف شعرها، حتى أنها غيرت لونه قبل ثلاثة أشهر فجعلته أشقراً. لم تعتب عليّ أو تؤنّبني، فأدركت أن “حياة” قد نشأت في بيت ملكي وتعرّضت لتربية فاخرة.

رغم حرصها على تجنيبي الإحراج إلا أنني تساءلت عن حجم اللامبالاة التي كنت أمارسها تجاه امرأة تتجمّل لطبيب بيطري، ولكن ما مدى صدق حديثها، وكيف لم ألتفت للتغييرات التي كانت تطرأ على شكلها، كما تدّعي؟ أم أنها كانت تحاول إيهامي وتشكيكي بقدرتي على ملاحظة التفاصيل؟ هل كانت لها غاية من وراء إظهاري بمظهر التيس عديم الإحساس بالجمال؟

أغمضت عيني واجتهدت في استدعاء مظهرها منذ اليوم الذي حضرت فيه إلى العيادة حتى بدء ذاك الحديث، لم ألحظ تغييرات مدهشة على شعرها وملابسها، وأذكر أنني هززت رأسي في أحد الأيام وقلت لنفسي إن الألوان التي تختارها “حياة” متشابهة إلى درجة لا تمكن متابعها من التفريق بينها، تنورة سوداء وقميص أبيض، وأحيانا تنورة كحلية وقميص حليبي. لم تجعل قلبي يصرخ يوما ما بصوت منخفض جدا وأقرب إلى الهمس: “ما هذه الأناقة، وما ذاك الجمال، وما تلك الجاذبية”. هل كنت أدخل كحمار أطأطؤ رأسي متوجهاً مباشرة إلى مكتبي؟ لو كنت حمارا لشممت رائحة عطرٍ وتحرك غصنٌ ما بين عشبي السفلي!

كأنني أردت قتل اندفاعي نحوها أو التفاعل معها أو الاسترسال في أداء تلك التمثيلية التي لم أسمح لنفسي بوصفها بالحمقاء، على العكس تماماً، كانت مشاهد رقيقة طردت أرواح القطط والكلاب والبغال والبقر من هواء العيادة، لتحل محلها أرواح تحبو على حقل خزامى.

أقنعت نفسي أنني غير مهيأ للعبة الحب، ووعدتُني ألا أفرّط بتلك العواطف وألا أتمادى في العيادة فنصبح كأننا في مكان تلقيح.

أوقفت الحوار وتذكرت المسعودي وتفسيراته لأحلامي، ولو عرضت عليه قصة “حياة” لربما حذّرني منها وأوحى لي بأنها تريد العبث بعقلي وتشتيت تركيزي والسيطرة عليه، وقد يقول “إن بداية السيطرة تبدأ بزراعة الشك في القوى، وأهمها قوة الذاكرة، وبعدها تبدأ عملية ترتيب الأحداث على هواها، وقد تقنعك أنك عاشرتها في العيادة خمس مرات، وقد تصف لك وضعية إحداها، كوضعية الحصان والفرس الأنثى..”.

تذكرت أيضا المواقف التي مررت بها بين الحقيقة والحلم والخيال والرغبة الدفينة لتحقيق الأفعال وتعزيز المسعودي للجانب الإيجابي المقدس المبارك.

تناقصت فرحتي وكدت أعود إلى البيت فأزيل العطر وأبدل ثيابي وأتذمر عند باب المصعد وأقود سيارتي بضيق وأدخل العيادة وأباشر مراجعة ملفات الحيوانات، تراجعت عن ذاك السلوك الذي كان سيبدو أرعناً في نظر حياة، وخشيت أن أفقد رائحة الأنوثة وبذرة الحناء التي زرعتها في حديقة عمري، لكنني لم أضع سيناريو آخر للتعامل معها وتركت الصدف تلعب لعبتها، لا فرق إن كانت مبتكرة أم مختلقة.

ناديت “حياة” فحضرت على الفور وقالت: (هل اتصلت بي؟).

نبهتني لأمر مهم، أخبرتها وأنا أرسم ملامح فيها الكثير من التعجب والغرابة: (تخيّلي، أنني لا أعرف رقم هاتفك ولا عنوان سكنك ولا أي معلومة تخصّك، وكل ما أعرفه الآن عنك أن اسمك “حياة”، أرجو أن تخرجي ورقة من ملف التوظيف وتملئيها بعناية..).

تأمّلتني بعينين غاب بريقهما وخفت سحر الكحل فيهما. تداركت وقالت: (كم أنت رجل نبيل يا دكتور، بعد عام ونصف تطلب مني هذه المعلومات، وقد وثقت بي وأعطيتني مفاتيح العيادة ولم تسأل عن أصلي وفصلي، ولم يحرضك فضولك لتتأكد من قصة خبراتي في المستشفى وتعاملي مع الحيوانات..هل تعلم، سأكتب لك كل التفاصيل وأضعها في الملف..).

شكرتها وطلبت منها الجلوس ثم سألتها: (هل لديك فكرة عن نمط سلوك أهل القصور يا “حياة”؟)

ارتبكت قليلا وسألت عما أريد معرفته على وجه الدقة، فقلت لها إنني مدعوٌ هذا المساء إلى بيت رجل من علية القوم، يشغل منصباً عسكرياً أو استخباراتياً كبيرا، وهو ثري يمتلك مزرعة واسعة فيها خيول كثيرة وحيوانات أخرى، إضافة إلى شركات كثيرة..

  • هل تعلم موقع هذه المزرعة؟

  • يقال أنها تقع على طرف المدينة، ويزورها كثيرا، بل إنه يقضي معظم أوقاته فيها، فهو فارس شارك في سباقات مهمة وفاز بمعظمها، لكنه لم يشارك في أي سباق منذ عامين ويعاني من متاعب نفسية، حتى أن توتره انعكس على خيوله أيضا.رفضتُ الفكرة بقوة وقلت لها أن لا علاقة للطب البيطري بالزيارة، وكل ما في الأمر أننا التقينا صدفة في مكان ما وأعجبه حديثي فدعاني، وأنا لم أدخل القصور في حياتي.أدهشتني، لم أسمع هذه النصيحة منذ ثلاثين عاما، قلت لها مداعباً: (هل كنت مع أبي عندما قذف في وجهي هذه الجملة في أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة؟).

    قالت بحزم: (كن أنت أيها الغزالي..).

    حوّلت نظراتها عنّي وأرسلتها عبر النافذة، لمحت عينيها تغرورقان كأنني نبشت ذكريات مؤلمة. تمكنت حياة من إخفاء ماء عينيها وابتسمت: (لا تقل أنك ترغب في اصطحابي معك!).

  • كلا يا دكتور، لم أكن قد ولدت بعد، لكن دخولك للقصر يشبه ذهابك إلى المدرسة لأول مرة، لكن ما قد تراه في القصر لم تقرأه في المدرسة، ستتعلم ما لم تجده في الكتب، وتقرأ ما لم تكتبه الصحف والمجلات، ولكن كنت أنت ولا تكترث، ولا تعد إلى القصر إن لم تجد نفسك فيه، حتى لو وعدك ساكنوه بأموال الدنيا كلها، واحذر أن تألف تلك الأماكن، لأنك إن ألفتها مرضت، ولا تأنس لسكانها، لأنك إن أنست أخطأت، ولا تخطئ يا سيدي، لأنك إن أخطأت مرةً تحوّلت فضائلك إلى خطايا، ولا تتجرأ فتصدق عاطفة القصور ولاسيّما عاطفة البنات والنساء، ستُظهر لك إحداهن أنها متمردة على الرفاهية القبلية والأسرة وحياة القصور، وتعيش معك مغامرة حقيقية وستعلن أنها أحبتك وعشقتك ولا تطيب لها الدنيا إلا إلى جانبك، وفي اللحظة التي ستعشقها بصدق وتعاملها على أنها لك، فتسألها عن حياتها ومشاويرها واتصالاتها، ستقلب عليك الطاولة، وينقلب عليك قلبها، وقد تتعامل معك كأحد الخدم، فلا تضع مقالك في هذا المقام. اعتقدت أن المحاضرة الاحترافية ستخفي المشاهد التمثيلية التي بدأناها إلى الأبد. فوجئت عندما أعادت “حياة” ارتداء ملامحها البسيطة حين قالت: (حسناً، هل تريدني الحضور إلى العيادة هذا المساء أم ستكون منشغلاً في تهيئة نفسك للقاء الفارس؟ هل ستتصل بي بعد عودتك إلى البيت لتعلمني كيف كانت التجربة؟ أم ستهملني كما فعلت لعام كامل؟ على كل حال سأنتظر اتصالك، على الأقل لأسمع صوتك قبل النوم، ولتتمنى لي ليلة هادئة، وسأسمعك بوضوح..حتى لو لم تتصل).قولها أكد لي حنكتها القوية، فقد قرأتْ تساؤلاتي وثبّتت شعوري من حيث لا تدري، فأفاضت في الوصف مرة أخرى. (3)كان الطابق السادس هادئاً جداً، وسكانه نبلاء كما يبدو، وأطفالهم يختلفون عن أقرانهم في البناية، لا يثيرون ضجيجاً ولا يلعبون في الممرات متحدّين الآباء والأمهات، ويذهبون إلى مدارس أجنبية، تأتي الحافلات صباحا فيهبطون بشكل منتظم ويصعدونها ولا يعودون إلا في الرابعة عصراً. هكذا رسمت المخيلة ذاك الطابق الملائكي. الطابق السادس كان محظورا على المسعودي، وحين أبديت تعجبي من طبيعة حياة هؤلاء، بعيداً عن الناس والمجتمع، ضرب “أوفيسر” جبينه بكفه وقال مبتسماً كأنه سيذيع سراً مهمّاً: (وقفت سيارة فخمة نوافذها مظللة باللون الأسود قبل عشرة شهور تقريباً، ونزل منها رجل كانت ملامحه تدل على أنه رجل مهم، كنت في مدخل البناية حينها، وتعمّدت متابعة أرقام الطوابق التي اخترقها المصعد، واكتشفت أنه توقف في الطابق السادس، وأجهل حتى اللحظة الشقة التي زارها، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء، مللت من انتظاره وصعدت إلى السطح، لا أحتمل انتظار الرجال المهمّين!).  في الساعة السابعة والنصف تلقيت اتصالا من رجل أخبرني أنه في طريقه لإحضاري، فهمت أنه رسول الفارس لي. في الساعة السابعة وأربعين دقيقة أخبرني أنه ينتظرني في سيارة سوداء بنوافذ معتمة. في الساعة السابعة وخمسة وأربعين دقيقة كان السائق واقفاً عند الباب الخلفي للسيارة، فتحه عند إطلالتي من مدخل البناية، لم أشك أنه زُوِّد بمواصفاتي وهيئتي.

    دخلت بهدوء المباركين الحكماء وأقفل الباب. كان يفصل بين المقعد الخلفي والمقعدين الأماميين لوح زجاج.

    طردت سكان الطابق السادس من مخيّلتي وبدأت الاستعداد للقاء الذي كان من المقرر أن يحدث في الساعة الثامنة مساء. ساورتني فكرة الهروب كما فعل المسعودي، أنّبت نفسي لمجرد أنني كنت سأقلّده في فعلٍ جبان، استند في هروبه إلى معلومات لا يتداولها سوى العامّة من الناس، فلماذا هرب ولم يكن سوى مجرّد مفسّر أحلام فاشل! ربما أراد من وراء رسالته دفعي للهرب أيضا، ولو فعلت لورّطني في قضية ليست قضيتي، لم يكن بيني، كرجل متحدث مبارك، وبين الفارس ما يدعو إلى الهرب أو الملاحقة، بل ما حدث كان عكس ذلك تماما، لقد قرأت الفضول يقفز من عيني الفارس، مع شيء من مشاعر الفرح.

    لم أقابل المسعودي مطلقاً هابطاً من الطابق السادس أو صاعداً إليه، لم يحدّثني عنهم كما فعل حين حدثني عن سكان الدور السابع، ولاسيّما عن الفتاتين الأجنبيتين الجميلتين، وشكوكه بشأن سلوكهما؛ فقد رأى بأم عينه شباباً يحملون ملامح شبيهة بالفتاتين يدخلان الشقة ويقفلان الباب! شعرت بسطحيته وتفاهته حين اعتبر زيارة الشابين دليلا على سوء السلوك، والكيس الذي يحملونه مليئا بزجاجات النبيذ والجعة!

    سألت “أوفيسر” عمن يسكن في الطابق السادس، فحدثني عن ثلاث عائلات تسكن البناية منذ سنوات قليلة، لديهم أولاد وبنات، ومستقرون في حياتهم، أبناؤهم هادؤون ومؤدبون ومرتبون، وإنه لم يدخل شقة أحدهم منذ انتقالهم للسكن في البناية؛ لم يرسلوا في طلبه لتصليح عطل كهربائي أو إنسداد في شبكة التصريف الصحي، ولم تستعن به ربات البيوت لإحضار غرض ما من البقالة، ولم يطلب أرباب البيوت مساعدتهم في حمل حقائب سفر أو أكياس مليئة بالحاجيات المنزلية. وحين سألته عن الشقة الرابعة (604)، قال بأن امرأة أنيقة تسكنها وابنتها منذ ثلاث سنوات تقريباً، ونادراً ما يقابل الأم، وابنتها تغادر مسرعة إلى عملها صباحاً وتعود في الساعة الثامنة مساء، ولا تخرج إلا في صبيحة اليوم التالي، ربما تخرجان في أوقات متأخرة في الليل أو في الصباح الباكر في أيام العطلات. وأفادني “أوفيسر” بمعلومة غريبة، لا أدري إن كان قد تعمّدها أم لا، قال إن الفتاة تغادر في اللحظة التي أنطلق فيها بسيارتي نحو العمل. وصف سيارتها بإعجاب: (إنها فخمة وجميلة ونظيفة وجديدة، ولم تطلب مني تنظيفها منذ قدومها وأمها إلى البناية..).

    التزمت “حياة” الصمت طوال سنة كاملة، استطاعت إخفاء حضورها في أوج حضورها. كانت تحضر وتؤدي عملها كامرأة آلية، وتغادر بالطريقة ذاتها، فلا تترك خلفها أثرا لمشاعر. نجحت في عدم ترك ذكرى واحدة تتعلق بثيابها وعطرها وجمالها ولغتها وصوتها. كان استيقاظها المفاجئ أكثر غرابة ودهشة، لكنني أحببته، وكانت صادقة حين تصرفت وكأننا التقينا في تلك اللحظة، وكنت صادقاً في تجاوبي.

    اكتفيت بالابتسام، لم يكن باستطاعتي سؤالها عن مصدر معرفتها بالقصور وطبائع سكانها، شعرت أن سؤالي كان سيُقابل بصمت أو بكذبة، على الأقل في ذاك الظرف. لقد انهمرت بالحديث دون محاذير أو تحفظات، نمّ عن تجربة لا شك أنها كانت مؤلمة. وزاد من رسوخ فكرة التجربة قولها وأنا مطرق الرأس: (أنا قارئة جيدة، وأحب تتبع حياة تلك الطبقة التي تعتقد أنها فوق الجميع، بينما هم بشر مثلنا، لهم غرائزهم وشطحاتهم وانفعالاتهم ونزواتهم، لكنهم يختلفون عنا حين يعتقدون أن أحزانهم مقدسة، وأفراحهم أكثر قداسة.. لا تهتم لقولي كثيراً، مجرد معلومات سردتها عليك..)

    ذكّرتني بحديثي أمام الفارس حين تقمّصت دور الحكيم الفيلسوف ولبست لباس العلماء، وأستعرت شكل الشيوخ المتقدمين في السن. فعلت “حياة” ذلك كله باسثناء أمر واحد؛ لم تكن مرتدية العباءة السوداء، ولم تكن تحملق بمزهرية فيها ثلاث زهرات. ثبتت نظراتها على عيني كأنها أميرة تقدّم لي نصائحها في التعامل مع سكان القصور، أو كأنها قضت سنوات من حياتها في قصر وتقدّم لي خبرتها بثقة تامة.

  • أهلا بك أيها الغزالي..

    التفتُّ إلى يساري وقلت: (تعلّمت أن أتوقع الغرائب والعجائب، فالدنيا مليئة بالسحالي والسلاحف والثعالب..).

  • كفّ عن هذه اللغة واسمعني أيها الغزالي، لعل ظنونك قادتك إلى أنني خدعتك في رسالتي، وأنا بعيد كل البعد عن ذلك، فقد اعترضتني سيارة في اللحظة التي انطلقت فيها بسيارتي تاركاً كل أثاث الشقة وكتبي والكثير من ملابسية، وأمرني رجل كان يجلس إلى جانب السائق بأن أتبعه. آه.. عليّ أن أخبرك أن أثاث الشقة ليس ملكي..

    لم أجب المسعودي. حاولت التركيز في ما ينتظرني بناء على تلك الواقعة الغريبة نسبياً.

    لا تستطيع التزام الصمت، أمامنا عشر دقائق للوصول، لقد أثار الفارس دهشتي حين عيّنني مستشاراً ثقافياً له، وهذا يعني بلغة مؤدبة أنني أصبحت من الحاشية التي لا تهش ولا تنش، وأنت أدرى بالمستشارين في هذه البلاد!

    باركت له منصبه الجديد ببرود وعدت إلى صمتي.

  • أرجوك للمرة الثانية، لا تلتزم الصمت، صحيح أن الصمت في المكان الذي سيحتويك بعد قليل فضيلة، ولكنه ليس كذلك في حالتك، أنت ذاهب إلى حضور جلسة تجمع أناساً قد يكونون من قمة هرم السلطة، فهذه المدينة القديمة تعج بالمفاجآت والعفاريت، ولهذا، قد لا يطلب أحد منك التحدّث في موضوع معيّن، فالفارس ربما هيأهم لحضورك ووصفك لهم، وبالتالي، ستتصرف كما تصرفت حين زارنا الفارس في شقّتي، مع فارق بسيط؛ كانت لديك معلومات عن الفارس وتحدثت بعمق ولباقة، أما اليوم، فأنت لا تعرف أحداً من الحضور باستثناء الفارس، وستعلم من خلال سلوكه وحديثه مع الضيوف من هو الأعلى منه منصباً والأكثر سلطة أو تسلّطاً. قبل نزولي من السيارة مِلت نحو المسعودي وسألته بخبث: هل معصومة من بين الحضور؟كنا قد اجتزنا بوابة كبيرة تسمح بدخول دبابة ضخمة، قاد السائق السيارة بعدها لمسافة ليست قصيرة، كانت الأشجار والورود تصطف على الجانبين وتضيئها إنارة متفاوتة السطوع، ثم توقفنا أمام مبنى مستطيل يتكون من طابق أرضي واحد يلاصق القصر الجميل الذي بدا بارداً. وجدت نفسي أمام صف من الشخصيات الذين لم أقابلهم في حياتي، وشت ملامحهم بقدراتهم، وكأنهم قلب السلطة وأصحاب القرار. كلما كانت تلتقي عيناي بأحد كان تمتم بالترحيب.بادر الفارس بالكلام بصوت جهوري: (هذا لقاء ودي أيها الغزالي، تستطيع التصرف وكأنك بين أخوة لك، وهو ليس اجتماعاً كما يمكن أن يبدو، فاسترخ أيها المبارك الحكيم، لأنني أراك مرتبكاً بعض الشيء..).هزّ معظم الحضور رؤوسهم مع ابتسامات تتفاوت في صدقها. قال رجل كان يجلس على يمين الفارس بكلمات أشبه بالأمر العسكري: (من أين أتيت أيها المبارك، أنت تلمّح ولا تفصح!).ضحك الجميع، لكن السائل رفع يده علامة الإصغاء فتأكدت أنه كبيرهم. قهقه الجميع..وحك بعضهم ما بين فخذيه..شعرت أنني أسهبت في وصف غريزة الحمار فأوقفت الكلام، لكن السائل طالبني بالمزيد بغية معرفة ما أرمي إليه، فقال: (أكمل). تعمّد المسعودي الحركة، مد جزءه العلوي مبالغاً وأمسك كوب الشاي، مُرسلاً إلي خلال حركته نظرة تحذير، فقال الرجل السائل بغضب موجها كلامه للمسعودي: (لا تفعل هذا مرة أخرى أيها الرجل..).قلت بجرأة أكثر: (أحلام الناس غريبة أيها الفارس القدير، لكنني لا أراها غريبة، إنهم يرون أناساً يطاردونهم في الصحراء والبراري بغية قتلهم بالسيوف والسكاكين، وفي البحر بغية إغراقهم، ومعظمهم يرى في أحلامه أو كوابيسه الفراغ المطلق، النساء تحلم برجال يغتصبونهن، والأطفال يحلمون أن الحرائق نشبت في بيوتهم، وكثيرون يستيقظون فزعين من اختفاء المدينة بأكملها..)..صافحت كبيرهم قبل مغادرتي، فشدّ على ظاهر كفي اليمنى بباطن كفه اليسرى وقال بصوت منخفض: (أريدك أن تخبرني أيها الطيب، قلت أنك لا ترى أحلام الناس غريبة، هل يمكن تقديم شرحك باختصار؟).

    قلت وأنا أضع باطن كفي اليسرى على ظاهر كفه اليسرى أيضا: (من يعمل كحمار مظلوم، وينام كبهيمة، إما أن يرى المزيد من الضباع تطارده لتواصل نهشه، وإما أن يبدأ في الرفس في منامه، وحين يستيقظ سيواصل الرفس أيها الكبير، ومن السهل أن ترفس الدابة صاحبها إن لم يعزف لها الموسيقى بين وقت وآخر، أو لم يحضنها ويهمس لها بكلام رقيق قبل بدء العمل وبعده، وهناك فئة من الناس لا تحلم بالضباع لأنها امتهنت التهريج، وقد تحلم أنها تحولت إلى قرود في الأيام القادمة، اعذرني، فأنا أستخدم أنواع الحيوانات دائما، وأخشى تراجع عدد السائرين على ساقين في مقبل الأيام..)

    (ويلك..).. قالها رجل على يسار الفارس، ثم نظر حوله فلم يلق استجابة من الحضور. لم ألتفت إليه، نظرت إلى كبيرهم الذي كان يجلس على يمين الفارس، فهزّ رأسه بأسى، وقال لمضيفه: (ألن تقدم لنا العشاء..أيها الكريم..). واقترب منّي ماداً بطاقة عليها أرقام هواتفه. شكرته والتزمت الصمت حتى انتهى الجميع من الطعام الذي لم أذقه، باستثناء بعض لقيمات خبز مغموسة باللبن. وحين استفسر كبيرهم قلت: (معدتي لا تحتمل الامتلاء في الليل، ولا تحتمل امتلاءات النهار، وليرحمنا الرب من دوار يتبعه دوار..).

    لم يناده باسمه، ووجه كلامه نحوي قائلا: (أكمل، أنت تقول ما لم تقله أجهزتنا السرية ولا العلنية أيها الطيب..أنا أفهمك جيدا).

    قلت: (الناس في هذا العصر يعملون بصمت، وليس كل من عمل صامتا كان مخلصاً وراضياً، والناس يحملون أو يُحَمّلون أحمالاً فوق طاقتهم، وليس كل من يحمل فوق طاقته يتمتع بظهر قوي، والناس في نهاية النهار يأكلون، وليس كل من يأكل يشعر بالشبع، والناس يرتدون ملابس على أجسادهم، وليس كل من يرتدي ملابس يكون قد أخفى عوراته، وحقيقة الناس تكمن في أحلامهم، فمن يدري ما يرون حين يطبق الظلام على بيوتهم..!).

    واصلت: (الحمار كائن صبور وحساس، رقيق المشاعر ومعطاء، يتحمل ما لا طاقة له به حين يكون فرحاً، ويدعي التعب حتى لو وضعنا على ظهره خمسة كيلوغرامات حين يكون حزيناً، فإذا راقبناه في الأولى كان مبتسماً، وإذا راقبناه في الثانية سندرك دموعه تتجول في مآقيه. والحمار عاشقٌ للبشر، فإذا انحنى إنسيّ ذكرٌ أمامه وهو عار نهضت غريزته، وربما حاول التخفيف من احتقانه بملاحقته، أما إذا شاهد أنثى ممددة على العشب على بطنها، عارية أو مرتدية، فإنه يبدأ بالتمدد بهدوء احتراماً للأنثى، ولو أجاد التقبيل لقبّلها..)

    واصلت الكلام: (الحمار مخلوق جميل، له عينان واسعتان مكحّلتان، وأذنان طويلتان وذيل طويل جميل وقوي، قوته تشبه قوة ما بين رجليه الخلفيتين..)

    ابتسمت وقلت: (أعلم أن جنابكم لا يقصد الجغرافيا ولا الأرحام، ولهذا يمككني القول إنني أتيت من حيث أوتيتُ التبصّر في مخلوقات الرحمن وعبدة الشيطان، وهذا لا يوجد في الكتب إلا قليلا، وجل ما أوتيته من تبصّر كان من مراقبتي للحمير ومعايشتي لهم..).

    واصلت كلامي: (أما الاجتماع فهو جماع لطيف بين الكلمات والأفكار والمشاعر والنوايا، وقد يلد ذكوراً وإناثا، لا شك أنهم سيكونون أصحّاء. والكلمة نصفها عقل ونصفها عاطفة، حتى الأوامر العسكرية تمزج من القوة والرحمة، بين الاستعداد للتضحية وبين الخوف على حياة الجنود، وكلنا جنود للفكرة البيضاء والزهرة الحمراء والتربة العفراء. كلنا نحتسي القهوة في البيوت والمجالس، ولكل طعمها وقدرها ومعناها وطلبها ورغبتها، بناء على نوايا مقدمها ومحتسيها.. وقهوتكم فيها الود وبركة الاجتماع.. بارككم الله..)

    أمر بالقهوة وانشغل بالحديث مع رجل كان على يمينه، كانت هيبته توحي بأنه كبيرهم. دارت بعد القهوة فناجين الشاي وأطباق صغيرة مليئة بالمكسرات. التقطت أنفاسي بعد الرشفة الأولى وقلت: (بارك الله هذا الجمع، الود من طباع الفرسان في التعامل مع أحصنتهم، ولا أحسب الحاضرين الشرفاء سوى فرسان هذا الزمان، فالحصان يضحك إن ضحك فارسه، ويتكدّر إن مرّ بها دون منحها لمسة حنان، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي ذاتها العلاقة بين الفارس والحصان، وبين العشاق والحسان، ولا شك أن قلبي يضحك الآن..).

    لم يجلس الفارس إلى جانبي بل قبالتي، المسعودي شكّل اللعنة التي كانت هالتها تربك حضوري، أحسست أن دبابير هائجة تنطلق منه وتحوم حولي بنوايا العض والقرص، فقررت بسرعة أن أتناسى وجوده وأزرع في ذهني قناعة تؤكد نجاحه بالهرب، وهكذا طردته من نفسي.

    ظهر الفارس في اللحظة التي اقتربنا فيها من الباب، كان أنيقاً، شارباه المعكوفان نحو الأسفل منحهاه هيبة كبيرة، رحّب بي بهدوء وقادني إلى أريكة فارهة. قبل جلوسي رفعت يدي بحركة غطت أماكن الحضور وألقيت السلام، ردوا جميعا بأصوات متباينة القوة.

    لم ينتظر السائق، غادر السيارة بعصبية وأقفل الباب بقوة مُصدراً صوتا عالياً، ما جعل السائق يحملق فيه بغضب. أما أنا فقد انتظرت قدوم السائق ونزلت شاكرا له جهوده مع لمسة بسيطة على كتفه: (بارك الله بك يا بني..).

    أرادني المسعودي الحديث في أمور لم يطلب مني أحد الخوض فيها، وأنا أعلم أن ادعاء المعرفة واستعراض الثقافة والتباهي باللغة أمام علية القوم فيه مخاطرة كبيرة، فمن المفترض أنهم استحوذوا على جهات الفهم كلها، وأحاطوا بشتى أصناف العلوم، فهم سادة البلاد ومثقفوها وعلماؤها وشعراؤها وفلاسفتها، وما على الجميع سوى الإنصات لما سيقولون، وعلى الجميع هز الرؤوس بالموافقة حتى في حال عدم موافقتهم، والابتسام كلما ابتسم أحدهم، والضحك بصوت أدنى كلما ضحك أحدهم، والوقوف كلما وقف، والجلوس كلما جلس، وتناول الطعام حين تصل لقمته إلى جوفه، والمغادرة حين يصمت أو ينشغل بهاتفه المتحرك، هذا ما علمته من “حياة” ومن بعض زوار عيادتي وقراءاتي. لكن الصمت أيضا مذموم ويبعث الريبة وعدم الراحة، ولهذا قررت أن أتفاعل وفق مقولة “لكل مقام مقال”.

  • ألهذا ترى الواقع مزرياً؟

    أكاد أجزم أن معظم الحاضرين يرون أحلاما فيها شيء من المطاردة، فأحدهم يحلم بخيول وفرسان يطاردونه في الصحراء بغية قتله، وهذا أثّر على خيوله، والخوف أن يؤثر على جنده. وأجزم أيضا، أن المرأة الصغيرة التي تستمع إلينا من خلف الباب تحلم بأنها تقف على حافة حفرة. صدرت عن الباب القريب أصوات فحملق في وجهي مبتسماً، وهي نظرة لا يقوم بها سوى رجل صاحب نفوذ وقال: اتصل بي بعد يومين في المساء، ولا تخبر ذاك المهرج الذي يسمونه المسعودي، واخف الأمر الآن أيضا عن الفارس. (4)صعدت إلى الدور العاشر، فتحت الشقة 1007، وتوجهت مباشرة لأطل من النافذة. خلعت في أثناء ذلك غطاء رأسي والعباءة واللحية البيضاء. سحبني هدوء الليل إلى نجمة قد تكون نائمة أو ساهرة، “حياة”. ***ارتجف هاتفي كجسد طفل يعاني من قشعريرة، لم يظهر اسم المتصل، مجرد أرقام متشابه تبدأ بالرقم (6)، لم أتردد في الرد، فرقم الهاتف أصبح دليلا على أهمية صاحبه.

    كنت قد وعدت “حياة” بالاتصال، قالت إنها ستسمعني وأنا أتمنى لها ليلة سعيدة حتى لو لم أتصل، وجدت أنه من غير اللائق الاتصال بعد منتصف الليل، فلا بقرة ستلد، ولا حصاناً مصاباً بحمّى، ولا كلباً توقف عن النباح أو خان أسياده فسهّل دخول اللصوص إلى فيلا فخمة. لا شك أن الحيوانات كانت نائمة، جميع الحيوانات، بمن فيهم خيول الفارس الذي لن يغادر إلى مزرعته بعد منتصف الليل إلا إذا أراد اصطحاب امرأة سيصهل معها بقية الليل، أو اصطحب قائده ليضعا خطة أو يحيكا مؤامرة ما، بعيداً عن البيوت، وقريباً من الخيول، وربما يتحدثان عني، أنا الوهم الناطق بالحكمة، المتنقل عبر حدود الكذب وتضاريس المتاهات المتداخلة. هكذا منحت لذاتي أهمية أكبر مما رسخ في رؤوس ضيوف الفارس.

    توقفت فجأة سيارة شبيهة بالتي أوصلتني وهبط منها المسعودي. توقعت عودته بعد قصته المفبركة عن محاولة هروبه واعتراض السيارة له. تجذرت بي قناعة أنه رجل معجون بالكذب والنفاق والحيل، صفات قد تكون من مكونات شخصيته أو قد تكون من متطلبات عمله. لم أبرر الأولى واستنكرت الثانية، وقررت وقف التعامل معه وزيارته في شقته وعدم استقبال أي كائن من طرفه حتى لو كان الكبش المرأة القربان، لم أعد في حاجة إلى قرابين، وإن كان لا بد منها سيكون المسعودي قرباني الأول والأخير بعد إجباره على الاعتراف بما يخفي من خيوط استغرق في نسجها حولي أسابيع وربما شهوراً لإدخالي دائرة المباركين. هل فعل كل ذلك من أجل دخولي القصر ومقابلة الفارس وكبيره ورجل صرخ في وجهي: (ويحك يا رجل..!)، أم أن الأمور انفلتت من عقالها وصرت أنا وهو رهن اعتقال غير مرئي؟

    كانت عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل. لمحت “أوفيسر” من خلف زجاج نافذة السيارة، كان يقف أمام البناية كأنه في انتظار أحد، اختفى حين اقترب السائق من بابي، كأنه اطمأن لعودتي سالماً أو أنه كان يراقبني.

    كنت آخر من غادر، رفضتُ بحزم مرافقة المسعودي لي فقال: (سلامي للحمير إذن..).

  • قال: أرجو ألا تكون مبالغاً في رؤاك أيها الرائي، لا توجد امرأة صغيرة خلف الباب.

  • لم أشأ الاتصال بك فور عودتك، تركتك تنتهي من استعادة ذاتك لأعرف بأي لغة أخاطبك، أرجو أن يكون اللقاء قد تم كما تشتهي.قلت بهدوء: (اعتقدت أنك نائمة، لديك حاسة سادسة فائقة تنبأتْ بوصولي ودخولي الشقة..).

    قاطعتني بلهجة قاسية: (أكره تسمية البيوت بالشقق، لأنها تحيلني إلى معاني الشقاق والانشقاق والشقوق، حين تتحدث معي أرجو أن تستخدم كلمة بيت، رغم أن البيوت التي تسميها “شقق” لا تعني لي سوى سجون تافهة يُحشر الناس فيها حشراً كزرائب الماشية أو زنازين المساجين، لا شرفات كبيرة ولا ورود ولا صباحات أو مساءات، باختصار أكره الشقق.. سامحني يا دكتور، رأيت مشهداً أثارني قبل اتصالي بك، ولهذا دبّت النار في شراييني.. أعتذر مرة أخرى، ليست “حياة” من تتحدث بهذه اللغة، والآن، هل كان اللقاء كما تشتهي..؟).

    كانت “حياة” تتحدث بلغة المذيعات أو مضيفات الطيران، بلا فواصل ولا نقاط ولا عاطفة، كأنها تقول إننا بدأنا بالهبوط التدريجي وعلينا ربط الأحزمة والامتناع عن الذهاب إلى الحمامات.

  • سأجيبك غداً على سؤالك، ولكن أخبريني بالمشهد الذي أثار غضبك.وحين لم أجب قالت: (رأيت المسعودي يهبط من سيارة سوداء..).

    طلبت منها الإجابة على سؤال واحد فقط لا غير فوافقت، سألتها إن كانت شاهدتني وأنا أنزل من سيارة شبيهة، صمتت قليلا وقالت: (سأجيبك شرط أن أقفل الهاتف مباشرة)، فوافقت على شرطها.

    التزمت الصمت لثوانٍ وقالت: (إجابتي ستقودك إلى أسئلة عديدة، هل تعدني بعدم طرحها؟).

  • نعم رأيتك، وهذا ما أثار ارتباكي أكثر رغم أنك هيأتني في العيادة لشيء من هذا القبيل، ليلة سعيدة)..كانت “حياة” تعرف المسعودي وتكرهه، وهي تسكن بالقرب منّي، إما في البناية ذاتها، وفي هذه الحالة ستكون هي التي تحدث عنها “أوفيسر”؛ الفتاة التي تعيش مع أمها ولا تغادر شقتها، وإما أنها تسكن في البناية المقابلة، وفي الحالتين نحن في دائرة واحدة، ولا شك أنها ستُفتح في العيادة في نهار اليوم التالي. قال لي “أوفيسر” إنها تغادر إلى عملها فور ابتعاد سيارتي عن المكان. استفاق الشيطان في رأسي؛ وجدت أن كموني لها في مكان مخفي لمراقبة البناية التي ستخرج منها ستكون فكرة سخيفة، وزيارتي للمسعودي ستكون أكثر سخفاً، وقد تشعل مشاجرة، فقررت وضع جدار عالٍ بيني وبين ما حدث مساء في القصر، وبيني وبين اتصال “حياة”، وأن أتجرع ما بقي من زجاجة الويسكي خلال مشاهدتي للأخبار، وأنام حين يثقل جسدي، وأستجيب للميتة الصغرى في مكاني؛ على الأريكة أو أرضية الصالون، لا فرق، المهم أن أنام، فذاك الصحو في تلك الظروف والظنون والشكوك مضرٌ كالوجبات السريعة والتدخين والتعامل مع المسعودي وزيارة القصور ومعرفة أحلام الناس. الصحو سيجعلني أكرر حروف المفردة بشكل مقلوب، فتتحول إلى عطس أو نباح؛ صوتان يثيران بي الهرش والإحساس بالتقيؤ، رغم حبي للكلاب وكلمة زكام!

    داهمني سؤال: ماذا إذا تغيّبت “حياة” في الغد؟

    أنهت المكالمة مباشرة.

اترك تعليقاً