رواية الكبش، الفصل الخامس، تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش_ الفصل الخامس

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

الفارس

(1)

الفارس

(1)

غادرتُ المسعودي وذهني خالٍ من الكلام، كأنني لم أسمع شيئا من ترّهاته، لا شيء يؤذيني أكثر من إحساسه بثقته وقدرته على السيطرة على الآخرين وتسييرهم، اكتشفت أنه لا يصلح لتفسير الأحلام لتجاهله للتفاصيل، فهو لم ينتبه لثيابي على سبيل المثال، ولم يسألني عن المرأة الكبش القربان أكثر مما قلته له، ركّز على أحلام الآخرين وصعوبة إيجاد تفاسير لها. صرت أشك بصحتها، ليس من المعقول أن تكون أحلام الناس متشابهة في مضمونها إلى تلك الدرجة، لم يحدثني عن فتاة حلمت بحبيبها وهو يخطفها على فرس أبيض، حسناً، هذا مشهد استهلكته الفتيات العاشقات وأدبيات الكتابة والتأليف، لم يحدثني عن رجلٍ حلم بمقاومة الفراغ، بترتيبه لموجات البحر، بقتله وتغلبه على قاتله، بصهيل قطيع خيول يشق المدى، برؤيته لنور الله يمر من خلف جبل ويكاد أن يصعقه. لم يحدثني عن أحلام أحد من سكان البناية؛

ألم يحلم “”أوفيسر”” حلماً في حاجة إلى تفسير؟

(لماذا لا تحلم أيها الرجل؟ كل أحلام السكان تصعد إليك ولا تمسك بواحدة منها، ولا تعيد حلم أحد إليه..)

حين خرج “أوفيسر” من غرفته مذهولا مرعوباً يلم وزاره حول خصره ويدعك عينيه، اكتشفت أنني صعدت الأدوار التسعة درجة درجة، وواصلت نحو غرفته. لقد مسحني بعينيه من الأعلى إلى الأسفل. اعتذرت وهممت بالهبوط نحو شقتي لكنني انتبهت لأمر غريب؛ في كل مرة كنت أزور فيها “أوفيسر” كان يخرج من غرفته الملعونة ويقفل خلفه الباب، كان يتجاهل دعوتي للدخول رغم أنه زارني في شقتي كثيراً.

التفت وسألته: ألا تحلم يا “أوفيسر”؟

قبل الوصول إلى باب سطح البناية قال: (لا يحلم من ينظف عشرة أدوار كل صباح، ويغسل عشرين سيارة كل مساء، وإذا ما رغب بامرأة أرهق خياله وعاشر نفسه ونام..).

تساءلت وأنا أفتح باب شقتي: (إما أن “أوفيسر” يكذب أو يدّعي أو يتجمّل، ألم يوهمني بوجود امرأة في غرفته ذلك المساء؟ ألم يشكرني لأنني أحافظ على أسراره؟).

دلفت شقتي بحزن شديد، لا شيء حقيقياً أيها الغزالي، يبدو أن التهيؤ هو الحقيقة الأكيدة التي يمارسها الناس، يُهيأ لهم أنهم يذهبون إلى العمل وينجزون، ويهيأ لهم أنهم يعودون إلى بيوت لهم فيها زوجات وأبناء وبنات، يُهيأ لهم أنهم يحققون إنجازات في حياتهم، أنا أكتب الآن مثلاً، وأعيش حالة غير حقيقية؛ اشعر أنني أرتب أحلام الناس من جديد، أعيد برمجة أجهزتهم العصبية، أشفي الكلاب من كآبتها، والخيول من إصابتها بالشيزوفرينيا، والبقر من التوحّد، والقرود من العقم، ويُهيأ لي أنني أسديت خدمة جليلة لـ”دوغي” حين بدلت لها كلبها بالمسعودي؛ هل تهيأ له أنه علق فعلاً داخل جهاز الامتصاص المشبع بمني الكلاب، رغم أن الكلاب تقذف في الهواء لكن الكلبات ينجحن في القبض عليهم ومعاقبتهم بالبقاء طويلا؟ المهم أيها الغزالي اللعين المشتت الضائع المتخيل، هل الفرح الذي يبدو على وجوه الناس تهيؤٌ، والحقيقة كلها تكمن في انحسار البحر وذوبان الجبال ورقص نساء الفراغ في عزلة الرجال؟ سأنام بعد قليل، أذهب إلى السرير كأن أحدا برمجني، وسأذهب للعمل مع الحيوانات في صباح الغد، وسأحاول شفاءهم من الأمراض التي تنتقل إليهم من أصحابهم، ليواصلوا تسليتهم وإمتاعهم وخدمتهم. ماذا لو حكم الحيوانات البشر؟ كأن يصبح الأسود رؤساء والقرود وزراء والكلاب نواباً والقطط تدير المحلات والمطارات والمشافي، والديوك يعملون مذيعين في القنوات التلفزيونية والدجاجات في المحطات الإذاعية منعاً للاختلاط! والبشر يخدمون هؤلاء ويمتطونهم في الذهاب إلى أعمالهم، فنرى قرداً يمتطي شابة رائعة الجمال لمجرد أنه مدير بنك! ستبقى هناك مشكلة التماسيح، الحيوانات الأكثر افتراساً، يلتهمون أبناء جنسهم والحيوانات التي تشبههم، والحيوانات من فصيلة البشر أيضا، هل سيتعاملون معهم كإرهابيين ويشنون عليهم حملات ويخرجونهم من الأنهار والبحيرات!

أنت تافه أيها الغزالي، وتتهافت عليك أفكار قد تقودك إلى الجنون أو الانفصام أو المشنقة..

أنبت نفسي وذهبت للنوم راضخاً لقانون الليل والنهار، تمهيدا للذهاب إلى العيادة في الصباح، فالتعامل مع الحيوانات يتطلب ذهنا صافياً أكثر من التعامل مع البشر.

(2)

في الساعة الثامنة صباحا كنت على باب العيادة، لم تكن السكرتيرة الممرضة قد حضرت بعد، لم تسأل عني أيضا، مكتبها كان نظيفا مرتّباً، الورود طازجة ومنعشة، والملفات في مكانها، لا شك أنها واظبت على الحضور، وعدم اتصالها كان يعني عدم تردد أي حيوان على عيادتي. شكرت الرحمن أن جميع الحيوانات بخير، وأنني نجحت في علاج من تردّد على عيادتي. عيادات الطب البيطري ليست مزدحمة كما عيادات البشر، ليس لأن عدد الحيوانات أقل، ولكن لأنهم قنوعون، يأكلون صنفاً واحداً أو صنفين، فلا تزدحم بطونهم بالمتناقضات، أما البشر فيفتشون دائما عن التنوع، وعن طعام لم يتذوقوه بعد، فالعربي يبحث عن أطباق صينية، والأوروبي يبحث عن طعام آسيوي، أما الحيوان فيعرف الأرض التي تطعمه ويعرف محصولها فيقبل عليه، وينفر من الطعام الغريب.

تناولت الملفات وجلست خلف طاولتي وبدأت أتصفحها، وقعت عيناي على ملف مرقط، علمت قبل فتحه أنه لنمر حضر صاحبه بالصدفة إلى عيادتي، قال إنه كان يزور صديقه في البناية المجاورة ولمح لافتة العيادة، وحدثني عن نمر أليف أخذه من أمه لحظة ولادته، وقرر معاملته، على سبيل التجربة، معاملة الطفل الآدمي، أسقاه الحليب في البداية، ثم بدأ يفت له البسكويت مع الحليب والشاي، فتناول بعضها على مضض، بعدها بدأ يقدّم له الفاكهة المهروسة مع الخضار. أخبرني أن الجوع وحده كان يجبره على تناول تلك الأطعمة. وحدث ذات يوم أن أحضر كبشاً، فانتهز النمر فرصة انشغال الجميع وقفز نحو الكبش وانقض عليه، ولم يستطع أحد تخليصه.

زارني صاحب النمر ليستفسر إن كان النمر خطراً على أبنائه الصغار أم لا، قلت له بوضوح: (بعد حادثة الكبش، عليك التأكد من إشباعه بشكل مستمر، فحتى الحيوانات الأليفة تتنمر وتستشرس وقت الجوع..).

قال: حتى البشر يا دكتور، معظمهم يستشرسون طوال الوقت.. أشكرك.

كان الرجل ثرياً حدّ الفحش، وقال إن صديقه يمتلك نمرا في البيت ولم يؤذ أحداً من أطفاله، فأعلمته أن بيئة النمر الغابات، والنمور أطباع، منها الهادئ الصابر ومنها المتوحش، وصديقك يعطي نمره مهدئات، هذا أكيد، ولكن لا تعلم متى تتحرك الجينات ويطفو الطبع الشرس، وقد يعود إلى طبيعة أسلافه بمجرد رؤيته نمرا على شاشة التلفاز، وأضفت: (لا تأمن لوحشٍ يا سيدي..).

رفضت أخذ ثمن الاستشارة، وكتبت له دواءً مهدئاً، وأنشأت للنمر ملفاً بعد مغادرته كتبت فيه قصته. اتصل بي بعد أسبوع وأخبرني أنه أهدى النمر إلى حديقة الحيوانات في مدينته، ومعه القطة السوداء ذات الحسب والنسب.

تذكرت حادثة النمر وصاحبه حتى أطرد المسعودي من رأسي، لكن قصة النمر أحضرت لي الفارس المطارد في الصحراء، فماذا لو كان هو الفارس نفسه الذي افتتح لي العيادة وغاب، كأنه خشي أن أربط بين اتصاله أو زيارته لي بالمعروف الذي أسداه لي، وأنا ايضا كنت تافها، لم أتصل به رغم مرور أكثر من عام، يبدو أن ترددات هزيمته تعاظمت وبات يلجأ لمفسري الأحلام بعد ملله من الأطباء النفسانيين.

حضرت السكرتيرة الممرضة، حيّتني بسرعة، كعادتها، وعادت إلى مكتبها كأن شيئا لم يحدث طوال الأيام الماضية، لم تحمد الله على سلامتي، ولم تسأل عن سبب غيابي، ما أيقظ دبابير الشك في رأسي واضطررت لمعاتبتها بعد استدعائها بلطف:

  • ألم تفتقدي غيابي؟يبدو أن التعامل مع الحيوانات وأصحابهم قد صحّر المشاعر ولجم خلايا نور الروح من الإشعاع، وربما كانت الحيوانات بريئة، ربما كان إيقاع يومي ومكننة حياتي وتردّدي على الهمنغواي، ومرافقتي الضجيج وعدم مشاهدتي لأفلام عاطفية أو مسلسلات حب أو قراءة الشعر هي التي حشرت نفسي في عالم متوحّد مع ذاتها الخربة. تساءلت إن كان ذاك السؤال غير المقصود قد أزهر طقساً من الحوار اللذيذ وأنشأ فصل ربيع آخر مقابل ربيع الحيوانات البشرية التي تأكل بعضها منذ سنوات.
  • الممرضة السكرتيرة أو العكس، اعتدت على التعامل معها كلقب ومهنة، لا أذكر أنني ناديتها باسمها رغم علمي به، ورغم ذلك سألتها سؤالا آخر كأنني قابلتها صدفة في تلك اللحظة:
  • طأطأت رأسها راسمة علامات خجل على وجهها وبدأت تلعب بأصابع كفيها، ثم أرسلت نظرةً تحمل إحساساً غامضاً طفى على شفتيها اللتين انفرجتا بابتسامة هادئة. لأول مرة منذ افتتاحها تشهد العيادة ذاك الموقف الإنساني العاطفي البريء. لم أصحح نوايا سؤالي متلذّذا بخفقات هربت من روتين عمل القلب وجعلت غيمة الفرح التي تكوّنت في عينيها تهطل على رأسي رذاذ عطر وتمسح توتراً سكنني طويلا.
  • ما اسمك؟
  • غزت وجهها دهشة ساحرة كابتسامة غزالة مُعتقدةً أنني أبدأ سيناريو دافئا كما يحدث في السينما. أدركت ذلك حين أجابت على السؤال بالخجل ذاته مع إضافة زادت مساحة الفرح:
  • اسمي حياة، وأنت؟وكأنها دخلت للتو مصادفة إلى مكتبي فسألتْ وعيناها تمسحان مكتبي: (أتعمل هنا منذ وقت طويل؟)..
  • كنت قد دخلت عمق الطقس فوقفت، كانت هالتي تزداد شفافية وزرقةً سماوية وطلبت منها الجلوس: (تفضلي إن لم تكوني مرتبطة بموعد، كيف تفضلين قهوتك، أنا لم أحتس قهوتي بعد يا آنستي..).
  • أربكتني كمراهق يختبر العاطفة المتراكمة في خياله الشقي وقلت: (اسمي الغزالي..).
  • نادني “حياة” بدون ألقاب، أنا أحب اسمي وأستمتع بحروفه على ألسنة المنادين. لم تلملم ما تساقط من خيال على بلاط الواقع، ولم تبدِ أي ارتباك، وكأن ما كان يجري حقيقةً، ولا أستطيع وصفه إلا بأنه “حقيقة”. رحبت به بهدوء وسألته عن سبب زيارته ونوع الحيوان الذي يقتنيه. أخبرني أنه لا يقتني حيوانات ولا يفضل وجودها في البيت، فلكل مخلوق مكانه وبيئته.
  • عادت “حياة” إلى مكتبها فحسم الرجل الزائر شكوكه، وتأكد، هكذا بدا، من أننا نعيد تمثيل مشهد سبق أن عشناه، فتقبّله بفرح.
  • لمحت رجلاً يقف خلف “حياة” صامتاً محترِماً ذاك المشهد، كان يبتسم بفرح. لم أكسر السيناريو الدافئ فجأة، ولم أخرجها من حلمها، بل قلت لها أمام الرجل: (طيب يا حياة، سعيد بالتعرف إليك، هناك زائر يقف خلفك الآن..).
  • كيف يمكنني مساعدتك إذن؟
  • لا أدري..
  • سألته عن صحته وحياته ومعنوياته فأجابني بلغة ميكانيكية: (لا أشكو من شيء، صحتي جيدة، أتناول طعامي بانتظام، أنام بانتظام، أمارس الجنس بانتظام وبلا مشاكل، أذهب إلى عملي في المواقيت المحددة، وهكذا..).
  • أدام الله عليك هذه النعمة يا سيدي..
  • تساءل إن كانت نعمة أم نقمة وقال: (لا مفاجآت في حياتي اليومية، ونومي فارغ تماما، لا أرى أحلاماً جميلة ولا كوابيس قبيحة، كأنني حيوان، ولهذا حضرت إلى عيادتك..).
  • وهل تظن أن الحيوانات لا تحلم؟
  • مؤكد يا دكتور، الحيوانات لا تحلم.
  • الحيوانات تحلم، لكنها لا تستطيع التعبير عن أحلامها التي تختلف طبيعتها عن أحلامك، قد يحلم الكلب بعظمة، أو أنه يلاحق قطة أو حشرة. وهم يدخلون مرحلة النوم أسرع من الإنسان، حاول مراقبة قطة أو كلب في أثناء نومه وستكتشف بنفسك هذه الحقيقة، الزواحف وحدها لا تحلم، المهم يا سيدي، هل تريد القول أنك لست بإنسان طبيعي لمجرد أنك لا تحلم؟
  • تبيّن لي الآن بأنني لست حيواناً طبيعياً أيضا، على كل حال، حتى لا تظن بأن حاجاتي كلها متوفرة، أنا لا أملك بيتا ولكنني لا أفكر بامتلاك بيت، لا أمتلك زوجة ولا أفكر بالزواج، أصرف راتبي كله بالتدريج حتى إذا انتهى الشهر أصبحت مفلسا دون قلق، ففي اليوم التالي أجد راتبي في البنك، لا أنزعج من ازدحام السيارات، ولا أتذمر من حرارة الطقس، ولا من صراخ الأطفال في الشقة المجاورة، ولا من برودة فنجان القهوة، ولا من ملوحة طعام أو كثرة السكر في الحلوى أو العصير، لا أعاتب أحداً قصّر معي أو جرحني أو ظن بي السوء، لا أبدي انزعاجا من مشاهد الحروب في نشرة الأخبار، تمر مشاهد قتل النساء وذبح الرجال وحرق الأطفال مروراً عادياً، لا أفسّر تصريحات السياسيين كما يفعل الناس، ولا أفكر بإستراتيجيات الشركات العملاقة، ولا تعنيني الهوية الوطنية ولا القومية، ولا أفكر مطلقاً بالاحتباس الحراري، وإذا رفع مالك البناية قيمة أجرة الشقة أستجيب، وأعيد ترتيب مصاريفي بشكل آلي، لا أتذمر من ارتفاع أسعار الوقود أو الكهرباء والماء.
  • ألم يدخل الحب قلبك؟
  • حين بدأ وعيي العاطفي يتشكل رأيت الفتيات متشابهات، فلم يسقط قلبي حتى الآن، حتى أنت تعيش الحب تمثيلا كما رأيت قبل قليل.
  • كيف أستطيع مساعدتك يا سيدي؟
  • لا أعتقد أن بإمكانك مساعدتي يا دكتور، لأنني لا أعاني من شيء ولا أتذمر من شيء، لكنني في المقابل أسمع الناس في الشارع والمقاهي وأماكن العمل يتحدثون بغضب عن أمور كثيرة، وكثيرا ما سألت نفسي؛ لماذا أنا مختلف عنهم إلى هذا الحد، بل أشعر أنني نقيضهم. أنا لا أحلم كما البشر، وبعد حديثك يمكنني القول أنني لا أحلم كما الحيوانات، فأي صنف أنا؟
  • هل شعرت بالجوع يوماً ما؟
  • طبعاً، لكن ذلك لم يكن يؤلمني أو يجعلني أتطلع إلى ما في يد غيري، جوع الطعام واللباس والبيت وكل شيء، مررت بهذه الحالات وتقبلتها.
  • ماذا يثيرك أيها المحترم؟
  • لا شيء..
  • أعني، الإثارة العاطفية..
  • أفهم قصدك، كلما أحسست بالانتفاخ أطلب امرأة من رجل أعطاني بطاقة دوّن فيها رقم هاتفه فقط، فيرسلها لي فتعالج انتفاخي دون حوار ولا أي صوت من أي نوع، وترحل؟
  • ألا تصرخ أو تتألم أو تصدر صوتا يدل على نشوة ما؟
  • كلا، كأنني أمارس فعل التبوّل..أجاب ببرود: لا أدري، أتيت لتنفيذ مهمة محدّدة، لكن الحوار الذي شاهدته بينك وبين الفتاة دب كل هذه الأسئلة في رأسي، أريد أن أقول شيئا يا دكتور، هذه الفتاة تحبك، أنا لم أر ملامح وجهها بل راقبتها من الخلف، كان كل شيء فيها يرتجف، حتى مؤخرتها..قلت للممرضة السكرتيرة وأنا أنظر في الملف المرقّط: لا شك أنكِ سمعت ما دار بيني وبين الرجل..!
  • جلست “حياة” في مكانه وأخبرتني: كان يحضر يومياً في غيابك، يسألني عنك بلغة كأنها صادرة عن رجل آلي؛ يقف في الباب: (هل الدكتور موجود؟)، فأجيبه (لا)، فيستدير كما الآلة ويغادر.
  • نهض وغادر العيادة بهدوء المخدّرين. جلست مُطرقاً رأسي ممسكاً به من الجانبين، أيقظتني “حياة” من شرودي، كانت واقفة في الباب، وكدت أنفجر بها غاضبا لولا كلمة الرجل الزائر: (هذه الفتاة تحبك)، وهذه الجملة تماما جعلتني أستعيد حديثه كله لأدرك أنه يعرف معنى الحب، وإن كانت علاماته “رجفة في المؤخرة!”.

نهضت ودرت حول نفسي وقلت له بغضب: من أي مجرةٍ أنت؟

  • لقد قرأك الملعون من الخلف..!

حضرني الشاب الذي لم أعرف اسمه ولا مهنته طوال غيابي واستفسر عني، الشاب الذي يعاني من حيرة في الانتماء، ويشعر قبل حضوره لعيادتي كأنه حيوان، وحين علم أن بعض الحيوانات تحلم أصبح يشعر أنه أدنى درجة من الحيوانات. المرأة المنقبة التي حضرت إلى عيادتي قبل أسابيع وقالت إنها حيوانة، والمرأة التي سمعها “أوفيسر” تقول للمسعودي (أنت الحيوان وعليك أن تذهب للعلاج في الدور العاشر) كانت تشعر أنها حيوانة، والمرأة الكبش القربان الفدية طلبت مني أن أخلصها منه، لم تذكر اسم المسعودي. هل النساء الثلاث عبارة عن امرأة واحدة أم مجموعة من النساء انتُزعت إنسانيتهن وأصبحن يشعرن كالحيوانات. بقي سمير، لم أقابله، ولا أعلم إن كان يعاني من الأمر ذاته، ربما يشعر أنه قرد هارب من السيرك، أو رجل مخابرات خنيث.مدت يدها بنعومة عصفور حديث الولادة وقالت: (سررت بالتعرف إليك..).

ضحك قلبي. نهضتُ كالرجال النبلاء، التقطت كفها من أطراف أصابعها وطبعت قبلة خفيفة.

انتشلتني من شرودي صورة قامة “حياة” الرشيقة، كانت تفوح منها رائحة تشبه رائحة العشب حين يبلله المطر. كنت في حاجة إلى تلك المعادلة حتى أستمر في التفاؤل.

  • عاد إليها الخجل من جديد، غطت فمها بطرف كفها وانسحبتْ من مكتبي متراجعة لتخفي تعابير مؤخرتها أو رجفة خطوتها. كانت حركتها مفعمة بالإغراء والحياة.
  • هل ترغب في رؤيتي في الرابعة والنصف عصراً؟

استدارت وغادرت المكتب، لم أراقب مؤخرتها، العاشق لا ينظر إلى مؤخرة حبيبته في لحظة الوداع، قد يتحسسها حين يعانقها، ليمزج الحنان باللهفة. لا أدري المدة التي حلّقت فيها، لكنني فتحت عينيّ لأجد الكلب الأسود وحيداً في عيادتي، تقدّم منّي وجثا، كان حزيناً كرجل أرمل. انتظرت لدقائق دون جدوى، لم تحضر “دوغي”، وفجأ، نهض وغادر العيادة كما حضر، يسكن التشرد أرجله.بحثت عنه ولم أجده فوعدت إلى العيادة. لم تكن بي رغبة للعودة إلى البيت، آثرت البقاء حيث رائحة عطر “حياة”، كمراهق يتحسس الكرسي التي كانت تجلس عليه حبيبته، وددت أن أكتب شعراً، رغم أنني لم أقرأ الشعر بعد خروجي من المدرسة، سكنني الشعر ولم أستطع كتابته على الورق إلا مرةً واحدة، أقنعت نفسي أن أجمل القصائد هي التي تبقى تحوم كإعصار في شرايين الشاعر، تعيد ترتيب أمواج البحار والمحيطات، وتعانق أشجار النخيل والشوارع والبنايات، وتحلق في سماء ثامنة، ولا تعود إلا على شكل غيمة وردية يخترقها قوس قزح، يكتب الشاعر عليه قصيدته التي ستتلاشى مع ألوان الطيف. حين صعدت إلى سيارتي وبدأت الشوارع تجتازني، جاءتني فكرة زيارة “حياة”، لكنني قمعت العاشق وقلت له: (احتفظ بقلبك وعتّقه، ثم اعصره وقطّره، ثم احتسيه بمتعة المنتشي، واركض كأيائل الجبال الوعرة، حتى إذا تعرّقت، ضمخ خلاياك برائحته، واذهب إلى “حياة”، وقدم بخار قلبك وقل: شمّيني..). عرضت على حياة العمل فوافقت على الفور، وباشرت في اليوم ذاته، حضرت في الساعة الرابعة عصراً وبدأنا بترتيب العيادة وتنظيم الملفات الفارغة، ووضع خطة للتعريف بها. عمها كان الزبون الأول، وكانت أولى كلماته لها بحضوري: (كنتِ تدّعين الجهل بأمراض الحيوانات الأليفة، وها أنت تعملين لدى طبيب بيطري..). مرّ عام على عملنا معاً، ولسوء أدبي وقسوتي لم ألتفت إلى واقع “حياة” التي تعيش بلا أب، حتى أنني لم أسألها عن أمها إن كانت حية أم لا، ولا عمن يسكن معها، ولم أزد راتبها منذ عام، ولم أقدم لها هدية أو إكرامية، فبعض أصحاب الحيوانات المريضة حضر عن طريقها، ومن طرف عمها، وتذكرت أيضا أنني لا أعرف رقم هاتفها! لم أعشق من قبل، ليس لأنني أتعامل مع الحيوانات طيلة الوقت، ولكنني لا أذكر أن امرأة مرت كالنسيم فلفحت وجه قلبي، وملأت خلايا رئتي بالعطر والأنوثة والرقة، يبدو أن حواراً باطنياً كان يدور بيني وبين “حياة” وخرج إلى الوجود بعد غيابي، فأنا لم أغب عن عيادتي لعام كامل، اتراها افتقدتني أيضا؟!. كان المصعد البطيء يخترق أحشاء البناية من طابق إلى آخر وأنا أسأل نفسي إن كنت قد رأيت الرجل حقاً أم أنني رغبت في رؤيته هنا؟ كيف يمكن لكائن لا هو إنسان ولا هو حيوان أن يختفي بهذه السرعة؟!

(3)

لم أدّعِ بما ليس بي ولست أنا عليه منذ أن بدأت أتعامل مع الآخرين، منذ خرجت أول مرة للانتظام في الصف الأول ابتدائي حتى تخرجت في كلية الطب البيطري في جامعة المدينة. قال لي أبي وهو يعلّق على ظهري حقيبة مدرسية قديمة تحتوي على دفتر ومسطرة وقلم رصاص ومقص وسندويش: (كن نفسك أيها الغزالي مهما كانت الظروف…).

لم أفهم كثيرا ما قصده أبي لكنني هززت رأسي وأنا أرسم صورة لتفاصيل المبنى المدرسي والتلاميذ والمعلمين والمقاعد والألواح والطباشير والمطعم الصغير جدا. عدت في نهاية اليوم الدراسي إلى البيت بالطريقة ذاتها التي ذهبت فيها إلى المدرسة؛ سيراً على الأقدام. قابلتني أمي فرحة بآخر العنقود الذي كبر وبدأ مشواره في الحياة فاحتضنتني بدفء ما زلت أشعر به حتى هذه اللحظة، كانت المرة الأولى التي أغيب فيها عن البيت سبع ساعات متواصلة ولا تعلم أمي عني شيئاً؛ عن الطعام الذي أكلته والشراب الذي شربته والمشاكل التي تعرضت له، وإن كنت فرحاً أم حزيناً. قابلتني كأنني كنت في سفر طويل، شدتني إلى صدرها كأنها شعرت ببدء موسم الهجرة الحقيقي، ولم يكن سوى بداية فصول يمكن اختزالها باسم واحد؛ فصل الغياب.

بدأت لهفة الأم تنحسر تدريجياً في الظاهر لكنها كانت تراقبني بعينيها وروحها وقلبها وتستقبلني باهتمام بالغ، كأصغر ابن بدأ يغادر عش البيت. ويبدو أن انحسار اللهفة كان بناء على نصائح أبي.

بعد انتهاء أمي من عناقي وإشباع لهفتها وتأكدها من عودتي سالما إلى البيت في اليوم الأول من المدرسة، أخذني أبي من يدي وقالي لي: (هل كنت نفسك أيها الغزالي؟).

احترت بالجواب المناسب فأوضح: (أن تكون نفسك يا بني هو ألا تدّعي بما ليس فيك أو لست عليه، هو ألا تقوم بفعل لا تحبه، وألا تصادق أحداً لا تنسجم معه، وألا تتظاهر بفهمك لشرح المدرس بينما أنت لم تفهم المادة بشكل واضح، وأن تظهر القوة في أوقات الضعف، وأن تظهر الشبع وقت الجوع، وأن تسأل أكثر مما تجيب، ولا تعتدي على أحد، ولا تخن أحداً. قد لا تعي ما أقول الآن بشكل عميق، ولكن حين تسترجع كلامي في قادم الأيام ستضيف عليه الكثير، واعلم يا بني أن الدراسة هي سلاحك الوحيد، وهي القوة الأكيدة التي تحميك، ولن أطيل عليك، ولكن أتمنى أن تشاركني بأيامك الدراسية، وبكل ما تتعرض له.. اتفقنا؟).

ابتسمت ومضيت لتناول طعامي، ويبدو أنني طبقت ما قاله أبي منذ اليوم الأول؛ ادعيت الشبع في لحظة الجوع.

ألقى عليّ أبي وصاياه ولم يزوّدني بالاستثناءات، ما أوقعني بمشاكل ومنازعات وحروب لا حصر لها، جعلتني أختار الطب البيطري كمهنة لأتحاشى التعامل مع الناس، وأن تكون صداقاتي محصورة جداً، والأماكن التي أزورها قليلة؛ العيادة، البيت، الهمنغواي! ما أسخفها من أماكن! عملٌ ونومٌ وخمرٌ تتبعها مقابلة الحيوانات والأحلام والكوابيس ومراقبة الهاربين من الحياة. وفي هذه الليلة ستجتمع العناصر كلها في بيت المسعودي، وسأكسر وصايا أبي للمرة الأولى، سأدّعي أنني رجل مبارك يتمتع برؤى وتحاليل، وسأكذب قدر استطاعتي لأموّه حقيقتي، وسأخدع رجلا لا أعرفه كي تتطابق تفسيراتي تصورات وخطط المسعودي.

ثبّتُّ على وجهي لحية اصطناعية فوضوية، كحلت عينيّ، القيت على كتفي العباءة السوداء، رسمت على ملامحي التقى وأسكنت الهدوء خطوتي وهبطت تسعة أدوار ببطء ناسك. استقبلني المسعودي بهدوء متمعّنا متفحصاً هيئتي الجديدة، وكاد أن يسأل عن هويتي لولا دخولي مباشرة إلى غرفة الصالون التي كانت تفوح منها رائحة اللبان المحروق. أرخى الستائر على النوافذ، وأطفأ بعض الأنوار كأنه يقوم بتحضير أرواح..

حدثني عن الرجل القادم الذي تطارده خيول غاضبة في منامه،وقال إنه من علية القوم، فارس ابن فارس، ولديه اسطبل يقع في ضواحي المدينة، يتمتع بمنصب عسكري دفاعي كبير، خاض حربين وخسرهما، ولا يحب الثرثرة كثيراً، متزوج وله ثلاثة أبناء كبار وابنة في العشرين، ولمّح إلى أنه استقال من حياته الزوجية ويفكر بالزواج مرة ثانية وسيسكنها في بيت صغير قريب من الإسطبل رغم بلوغه الستين، ولكنه يخشى أن يصاب بهزيمة ثالثة. وأعلمني المسعودي إنه فاحش الثراء يمتلك شركات عديدة، من بينها شركة تورّد اللحوم للجيش، وشركة استيراد وتصدير، وشركة أجهزة إلكترونية ومحل لبيع التراثيات والآثار، ومساهم قوي في شركة اتصالات، ولديه صلات خارجية قوية، ويشرف على صفقات بيع وشراء أسلحة، لكن الهزائم ألقت بظلالها على عضلاته الحساسة، ويكاد يجن. لم يذهب لأي طبيب حتى اللحظة مخافة الفضيحة، ففخره واعتزازه بين فخذيه.

جلس المسعود راكعا قبالتي وقال: (وأخيرا وهو الأهم، تتناوله الصحافة وتغمز وتلمز عن تجارته وثرائه السريع، بل إن أخباره وصلت الصحافة الأجنبية التي نشرت تقارير شككت بمصادر أمواله وعلاقاته مع أعدائه المصيريين، وتسليمه إدارة أعماله لشاب غامض مشبوه لا أحد يعرف أصله من فصله، ولهذا فهو دائم التوتر، وظّف شابا لقراءة الصحف فقط ومتابعة ما يُنشر عنه، ومحاولة التواصل مع الصحفيين ومحاولة استمالتهم لتحسين صورته، فالحملات الإعلامية المبطنة كانت واضحة رغم عدم مباشرتها، وعلى الرغم من علاقاته الرسمية إلا أنه مهدّد في خسارة منصبه الكبير، فلا أحد يعلم أيها الغزالي متى يغضب الرجل الكبير، أو قمة هرم السلطة..هل أحطت بصورة الرجل الذي تقابله الآن…؟).

تحدثت مع المسعودي عن هدف الزيارة وهدفه منها، فقال إنه يريد أن يخفّف عليه كوابيسه ويريحه من الألم، ويمنحه الأمل ويقلل من توتّره. أما هدف المسعودي فلم يفصح عنه واكتفى بالقول” (إن مهمتي تتوقف عند الأحلام وتحويل الكوابيس من جهنمية إلى وردية..).

قلت بلؤم: كما فعلت معي؟

ساد صمت غامض، كان المسعودي يحملق خلاله في بلاط أرضية الصالون، وكنت أحملق في عظام وجهه الناتئة وهزال جسده. كان قصير القامة أشعث الشعر حاد الملامح تحتل عيناه نصف وجهه.

رن هاتف المسعودي رنة واحدة، انتفض وتسمر عند الباب، فتحه على آخره استعدادا لدخول الضيف دون انتظار. تلك الشخصيات تحب الأبواب المفتوحة، والانتظار يؤلم قدرها وقيمتها، ولهذا فإنهم حين يتحركون في سياراتهم لا يتوقفون عند الإشارات المرورية الحمراء، وحين يدخلون مكاتبهم يفعلون ذلك كالفاتحين القادمين من معركة، لكنهم، مثل بقية البشر العاديين، حين يصلون إلى وجهتهم يجلسون على كراسيهم، وأحيانا لا يفعلون شيئا سوى الاتصال بأصدقائهم وعشيقاتهم وبالشخصيات التي تنجز لهم مشاريعهم أو تمررها من الجمارك أو مجلس الوزراء، وإذا ما زار أحدهم عشيقته يتخلص من هيبته وألقابه ويلقيها عند قدميها، وبعضهم يبوس أحذية الجميلات الساحرات الجذابات، ويزحف على بطنه أو يلف حول خاصرته شالا ويرقص كبائعات الهوى.

دخل الرجل المهم، صافحني بهدوء ورقة وهو يحدقّ في عينيّ وهيئتي، لم يضغط بكفه الكبيرة على كفي. لم أنظر إليه بعد جلوسه وإنما حملقت بمزهرية فيها ثلاث زهرات مختلفات كانت إلى جانبه، تلك الوضعية جعلتني أدرك أنه لم يزحزح نظراته عنّي.

قال إن حرارة الطقس ورطوبته بدأتا في الارتفاع، ولديه قدرة عجيبة على تحمّل الحرارة ولكنه لا يستطيع تحمّل الرطوبة، إنها تجعله يشعر بالقرف من نفسه ومن كل شيء، ما ينعكس على مزاجه فيشعر بالضيق وبرغبة في التعري والاغتسال، لكنه سيفعل كل ذاك حين عودته إلى بيته لأنه لن يطيل الجلوس.

قلت له أن يهدئ من أعصابه ويريح مزاجه، فالمزاج الضيق العصبي يشبه احتساء خمرة مغشوشة، تضرب بعقل محتسيها وتقوده إلى اختيار مفردات ليست في محلها، ونحن في مقام اختيار الكلام، والكلام الجميل إحسان كمجالسة الحسان حين نرى الله في عيونهن وسحر خلقهن، والكلام نوايا الإنسان، يراه في طريقه إلى عمله وفي حروبه وفي أحلامه، فإن كان كلامه حسناً ورقيقاً ودمثاً رأى القبيح جميلا، ورأى الحيوانات ملائكة تسبح لخالقها، والقول الصادق مرآة القائل، يصف دقائق الأمور حين يريد أن يجتليها، وخاصة تلك التي يخبؤها لذاته. ولا يمكن فهم رجل يخبئ ما يدميه. حرارة الطقس نعمة من صاحب الحرارة، ورطوبة الجو منحة للأشجار والأتربة والغيم، وما نحن سوى مستقبلين لكل ما حولنا، غير قادرين على تغيير ما صنعه الذي لا يتغير ولا يتبدل. والتذمر هو اعتداء على القوانين العليا العلية، وهنا نخشع ونركع وندعو لأرواحنا السلام والاطمئنان.

هدأت روح الرجل واستراحت خلاياه ونفسه وابتسم، ثم عدّل من جلسته، فبعد أن كان يرخي ظهره ويعلي صدره انحنى باتجاهي كأنه يريد الاستماع أكثر.

واصلت حديثي الهادئ وأنا أنظر إلى الزهرات الثلاث في المزهرية القيّمة وقلت إن الهزيمة نعمة يجب أن نشكر من تسبب بها بصمت إن كان عدواً، وهي مؤامرة وخيانة إن كان المتسبب صديقاً ويجب قتله، وجَلْدُ النفس عمل يساوي قتلها، فهو تعذيب، ومن التعذيب ما قتل. هل رأيت تيوس الجبال وهم يتناطحون فوق تلة صخرية؟ هل رأيت كيف يزن أحدهم قوة الآخر ثم يهاجمه؟ هل رأيت كيف يتراجع أحدهم لو شعر أن خصمه أقوى منه، ثم حين يشعر المنتصر بالفخر لا يلبث التيس المهزوم أن ينقض عليه بكل ما أوتي من قوة وعزم فينطحه، وقد يتغلب عليه. ونحن ندخل في كل يوم حربا، مع الأعداء والأصدقاء السيئين الخائنين، وندخل حروباً غير معلنة مع قياداتنا والمسؤولين عنا في العمل، وندخل أيضا حروبا مع نسائنا، ولعل أمكر الحروب هي حروب النساء، هل رأيت رجلا انتصر على امرأة في الحياة خارج البيت أو في السرير، الرجل المحنك القوي ليس من يهاجم المرأة كثور، في هذه الحالة سيكون الخاسر، إلا إذا كان سيدخلها بعصا، إنه الرجل الذي يجعل المرأة تقتحمه بهدوء، وما عليه سوى الاستسلام، فإذا ما استفزت كل أطرافه وأعضائه واصابتها بنشوة المياه في البئر قام إليها عاشقا وهو يحمل أداة الولوج ليتوحد بها، ستكون المرأة عندها جاهزة لاقتناعها أنها هي من أنبتت له غصنا رابعاً سيخضر ويحمر في داخلها.

ترك الضيف الأمثلة كلها وانتبه إلى المرأة وسأل: (فكيف إذا كانت ممدة متمنّعة عن نبش تضاريسه أيها الحكيم الطيب.؟).

أجبت بهدوء: (هل رأيت حصانا وهو يراود الفرس الأنثى عن ذاتها؟ لو قفز عليها فور خروجه من الإسطبل لما استطاع اعتلائها، ولعلك رأيت هذا المشهد، ويبدو عليك أنك فارس، كيف أن الحصان يبدأ في شم الأنثى في مكانها الحساس، وفي تلك الأثناء يبدأ بالانتشاء، ولا أريد وصف الحالة، ثم يقفز شاهرا رغبته. والفرس الأنثى أيها الفارس تفرز سائلا له رائحة تعلم مسبقا أنه يهيج الحصان، وهذا الإفراز دليل قبولها له. فما عليك أيها الفارس النبيل، لتتجنب هزائم إضافية، إلا أن تفعل ما يفعله الحصان بالفرس الأنثى. البشر يتخاطبون بالرائحة فيتحابون، ويتخاطبون بأطرافهم حين يتعاركون ويفترسون، كالحيوانات تماماً. والبشر يتحاربون بالرائحة فتكون أداة لسيطرة طرف على آخر، كأن تأتيك امرأة وقد ضمخت جسدها وعباءتها بمادة مخدّرة مدّعية أنها قادمة لإسعادك، وتتمايل أمامك راقصة فإذا بقواك تبدأ بالتلاشي، ويأخذك النعاس إلى حيث تريد، وحين تصحو قد تسرد عليك ضعفك وتصف محاولاتها لإسعادك دون جدوى، فتصيبك بالهزيمة. أو يدس أحد الذين يدعون صداقتك حبة هلوسة في كأس نبيذك أو فنجان قهوتك فتهلوس طوال منامك في ليلك أو نهارك، وحين تسرد عليه ما هُيّأ لك أنه حلمٌ، يبدأ بتفسير ما ليس في حلمك أو ما أرادك أن تكون عليه ليستحوذ عليك، إلا أن الكلام في الجهر ليس كالكلام في السر، أعني أن يتحدث أحد عن مساوئك في حضورك يختلف عن حديثه عنك في غيابك أو في الصحيفة، فالكلام المباشر لا يُضاف عليه، أما الكلام المنقول فهو معرّض للإضافة، وتتراكم الإضافات حتى تتحول الإشاعة إلى خبر، والخبر إلى أخبار، ولهذا عليك ألا تتألم لما يقال عنك في غيابك، وأن تذهب بنفسك لمصدر الشائعة أو الخبر فتفصله وتفنده وتضحضه وأنت تبتسم ابتسامة كبرياء وثقة، فالتوتر يقتل صاحبه ويقوده لارتكاب الأخطاء، واراك هادئا ودودا تجيد التعامل مع كل ما ذكرت، ولاسيما النساء..)

كان المسعودي ينصت إليّ ويهز رأسه، يحملق بي مندهشاً بين كل فكرة وأختها، وربما سأل نفسه من أين للغزالي كل هذا الكلام. تجاهلته عامداً متعمّداً ولم ألتفت إليه ووجهت كل تركيزي ناحية الرجل الذي لم يقل شيئا سوى أنه طلب لقائي على انفراد، وفي بيته أو مزرعته.

أجرى الفارس مكالمة هاتفية سريعة جدا، نهض بعدها بدقائق قليلة عبّر خلالها عن سعادته بالتعرف إلي، وقال كمن ألقى حملاً ثقيلا عن كاهله إن روحه ارتاحت كثيراً. وقدّم لي بطاقة عليها أرقام هواتفه طالباً مني الاتصال به في مساء اليوم التالي لأنه سيكون منهمكا في إنجاز بعض المهام خلال النهار.

انتهى المسعودي من طقوس وداع الرجل بالانحناءات الكثيرة وإطلاق مفردات التبجيل والشكر لتشريفه بيته المتواضع، وانتظر حتى غاب الرجل مستخدما الدرج في الهبوط، فهؤلاء الرجال يصرّون على عدم الانتظار وتجنّب الوقوف أمام الأبواب المغلقة حتى لو كانت أبواب مصاعد.

عاد المسعودي وفي عينيه كل أسئلة المأخوذ المندهش الذي تتزاحم الأسئلة في ذهنة، لا يعرف من أين يبدأ حديثه. فكان يجلس على الأريكة محملقاً ببلاط غرفة الصالون تارة، وتارة يقف حائماً حول جسده النحيل. وبعد مرور دقائق على التوتر أخذ نفساً عميقاً وسألني عن معنى الكلام الذي قلته، ولماذا لم أترك للرجل فرصة الكلام، وأنهى تساؤلاته التي لم أجب على أي واحد منها بالقول: (ما يغفر لك أنه غادر راضياً مرضيّا، وطلب رؤيتنا مرة أخرى في بيته أو في مزرعته..).

نظرت إليه بعد طول تجاهل وقلت: (أخشى أن الرجل قد طلب رؤيتي وحدي..لكنني سأستأذنه بشأن إمكانية حضورك..).

نهض ووضع قبضته على خاصرته لاوياً جذعه قليلا نحو الجهة اليمنى كالنساء الرداحات وقال: (هذا يعني أنك قد تزوره وحدك أيها الغزالي؟ ستلتهم الكعكة وحدك؟).

قلت له إنني لا أتناول الكعك ولا أحب “الكريمة” إلا وهي تغطي جسد امرأة على هيئة كبش.

ثم نهضت أكثر هدوءا استعداداً للمغادرة، وعند الباب همست له كمن يكشف عن سر غامض ومعقّد: (نقلت الكلام كله عن ورداتك الثلاث الراقصات بصمت في تلك المزهرية الساحرة، انظر إليها مليّاً أيها المسعودي، وستقول لك كلاماً لم يجر على لسانك منذ دخولك كلية علم النفس حتى دخولك معترك قراءة الناس من خلفياتهم ومؤخراتهم، أعتقد أنهن لسن وردات إنما جنّيات فاتنات حكيمات..!).

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً