رواية الكبش
الفصل الثالث- أوفيسر
“أوفيسر”
(1)
خلعت ملابسي واتصلت بسمير، فاجأني بصوته الذكوري القوي، استفسر عن اسمي، شرحت له باقتضاب ظروف تعارفنا فرحب بي بصوت أقل حدّة، وقال بلغة أقرب إلى الرسمية: “سررت باتصالك، كيف باستطاعتي خدمتك..”.
لم أفهم تحوّله من شاب رقيق كان يتحدث بنغمة خجولة في الهمنغواي، إلى شاب صلب على الهاتف، قلت: (يبدو أنني اتصلت في وقت غير مناسب، أعتذر..).
- أهلا بك، اعذرني لحدّتي فقد انتهيت للحظتي من مكالمة هاتفية مع أحدهم، ويريدني الحضور إليه في هذا الوقت المتأخر من الليل لتنفيذ مهمة رسمية، وأنا مكتئب وأشعر بالتعب!
- هل كنتُ السبب في حالة الاكتئاب؟
- كلا يا دكتور، مزاجي كان ملوثاً قبل ذهابي للهمنغواي، وحين تقدمت للجلوس إليك ازداد تلوثاً.
لم أستفسر عما كان يعنيه بكلمة (ملوث)، ولم أسأله كيف عرف مهنتي، ضممت تلك المواقف إلى هواجس أخرى كثيرة قررت الاحتفاظ بها لنفسي، ومنها تحوله المفاجئ إلى شاب قد يتسم بالعنف، وكذلك معرفته بأنني طبيب. اعتذرت مرة ثانية وتمنيت له ليلة سعيدة على أمل لقائه في أمسيات أخرى. رد بكلمة واحدة: (إن شاء الله)، وأقفل الهاتف.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، وكنت لحظتها أتهيأ للنوم، وربما دخلت المرحلة الثانية من النعاس، حين تفجرت من الهاتف نغمة تشبه موسيقى الشياطين، خصّصتها لتكون نغمة تجبرني على النهوض من السرير كالملسوع. اعتقدت أن الصباح اللئيم قد باغتني مسرعا، لكنني تبينت زحفاً أكثر لؤما يقتحم الخط الفاصل بين النوم واليقظة، كان صوت سمير، يتحدث بالنغمة ذاتها التي ربما اصطنعها في الهمنغواي، يمط الحروف مطاً جعلني أعتقد أنه يمط جزءا من جسده مع كل حرف.
- مساء الخير أو صباحه … هأ هأ هاااي .. أنا سمير..
يبدو أنه فكّر في أمر المكالمة الأولى مليّاً واتصل لتصحيح أي لبس حول شخصيته، أجبته بنفس أسلوبه: (مساء النور، كيف يمكنني مساعدتك..).
أطلق ضحكة اصطناعية وقال: (تخيّل أنني لا أعرف اسمك حتى هذه اللحطة!).
كتمت انفجار الحروف في حلقي.. لم ألعنه ولم أشتم أمه وأباه وقبيلته كلها..
قال: أنا في حاجة للتحدث إليك، ما زلت أشعر بالاكتئاب..
- هل تعتقد أن الوقت مناسب للحديث، أشعر بالنعاس يا سمير، نتحدث غداً إذا أحببت.
وأقفلت الهاتف عامداً متعمّداً دون منحه فسحة للرد.
ذهبت في نوم عميق كأن صوت سمير كان حبة منوّم. عجبت من عدم قلقي وطيّ صفحته بسرعة، أستطيع القول أنني أدهشتني، لكن غياب الشاب المغناج كان يمهد لحلم لن أسرده أمام صديقي المسعودي، لأنه كان بطل الحلم، أو الشخصية الشريرة التي حولت الحلم إلى كابوس مرعب ومقرف. لقد رأيت المسعودي في منامي يحمل شبكة لصيد السمك ويطاردني، بينما كنت أجتهد في السباحة فوق سطح الماء تارة وللغوص تارة أخرى، للابتعاد هربا من تلك الشبكة المقيتة، كنت أراه يقترب أكثر حتى قررت الغوص لفترة طويلة والسباحة تحت الماء إلى أن ضاق صدري وكدت أختنق، فدفعت جسدي منطلقاً كالسهم نحو سطح البحر. نظرت في الاتجاهات كلها ولم أعثر عليه، فتوجهت نحو الشاطئ وتمددت، أخذني التعب فغفوت، وحين فتحت عيني فجأة شاهدت المسعودي واقفا كالمارد إلى جانبي وقد اسود لون بشرته، كان يرفع سيفاً ويهم بيضرب به رأسي فاستيقظت.
كانت الساعة الخامسة فجرا، تذكرت قول المسعودي إن الحلم في هذا الوقت قابلٌ للتحقق. ولدهشتي عدت للنوم كأن المسعودي لم يزرني، وغفوت حتى الصباح.
(2)
راودتني فكرة زيارة المسعودي الذي يكون في ذلك الوقت جالساً في شرفته يراقب ظهور الرجال والنساء، يدرس أمزجتهم من مؤخراتهم وخطواتهم وهندامهم، وخشيت أن يكون جافاً ويعتبر زيارتي تطفلاً.
كانت معرفتي بالمسعودي سطحية حتى تلك اللحظة، ولا أعلم عنه إلا ما أعلمني به؛ شاب أراد دراسة السياسة والاقتصاد فدرس علم النفس ثم تخصص في تفسير الأحلام، ويدر عليه تخصصه أموالا كثيرة! ويدّعي أن زبائنه سياسيون ورجال أعمال وأثرياء ونساء وفنانون وفنانات، وغالباً ما يستدعونه إلى بيوتهم. لم يحدثني حتى تلك اللحظة عن أحلام أي شخص من شخوصه، رغم تعارفنا قبل ثلاثة شهور، حين انتقل للسكن في البناية ذاتها.
تعرّفت إليه حين كنت أتحدث إلى حارس البناية “”أوفيسر”” عن طلاء البيت وحاجتي لعمالٍ مهرة، فلونه المائل إلى الاصفرار كان يثير فيّ الحزن والاكتئاب. في تلك اللحظة حضر رجل يسأل عن شقة شاغرة، قاطع حديثي مع الحارس بأسلوب خالٍ من اللباقة، ووجّه كلامه للحارس متجاهلاً حضوري.
قال: أبحث عن شقة في الدور الأول أو الثاني، لكنني أفضل الدور الأول، وشرفتها تطل على مدخل البناية.
شككت أن الرجل على دراية تامة بوجود شقة فارغة في الدور الأول.
تبادل الحارس معي نظرات استغراب، عندئذ قال الرجل: (هل طلبي غريب لكليكما؟)..
أجاب “أوفيسر”، ويبدو أن طلب المستأجر الجديد استفزه: (نعم غريب..).
الرجل: وما الغرابة في الأمر؟
“أوفيسر”: لماذا تبحث عن شقة تطل على مدخل البناية؟ إنها متوفرة على كل حال.
“أوفيسر” رجل من النيبال، كان في الأربعين من عمره، مزاجه متقلّب، لكنه بسيط وودود ويبتسم دائما، إلا أنه يثور لأتفه الأسباب.
استأذنني الحارس: حسناً يا دكتور، سأريه الشقة المطلة على مدخل البناية.
سألني المستأجر الجديد قبل أن يلحق بالحارس: هل أنت طبيب؟
كانت لهجته حادة ومتذمرة، سألته: (وهل يضيرك هذا؟).
- كلا، وأنا طبيب أيضا، اسمي المسعودي، مفسّر أحلام.
- وأنا اسمي الغزالي، طبيب بيطري..
توتّر المسعودي معتقدا أنني أهزأ به فقال: (هذا هو اسمي وليس لقبي أيها الرجل..!)
قلت مبتسماً: (وهذا هو اسمي وليس لقبي، ولكنني لست كما الغزالي الشهير، أنا لا أعتبر الفلاسفة كفّارا..).
- ولماذ تقول هذا، هل يبدو على هيئتي أنني أقف موقفاً عدائياً من الفلاسفة؟
- لا أدري، ولكن لم هذا التوتر، نحن لم نعرف بعضنا بعضاً بعد، على كل حال أنا أسكن في الدور العاشر شقة 1007. يمكنني مساعدتك! فالحيوانات تحلم أيضاً..
صرخ متهجّماً عليّ: (تأدّب يا رجل، أنت تسخر في مقام الجد..).
أمسك به “”أوفيسر”” وقال له: (اهدأ .. لا توجد شقق فارغة في البناية..).
وجهت كلامي للحارس: (يبدو أن الدكتور أساء فهمي..).
ثم خاطبت المستأجر الجديد: (وأنا أعتذر، أردت أن أشيع جواً من الإلفة كوننا سنصبح جيراناً في بناية واحدة، وإن كنت في الطابق الأول وأنا في العاشر، ولكن لا بأس..).
ورجوت الحارس أن يقوده إلى الدور الأول..
أحسست بعلاقة ما تربط المسعودي ب”أوفيسر”، فحين تهيأ الحارس لأخذ المستأجر الجديد ليريه الشقة، وضع يده على كتفه بأسلوب لا يحدث إلا بين المعارف والأصدقاء، لكن ذاك الإحساس لم يدم طويلا، فقد كنت في عجلة من أمري..
كان شعر المسعودي أشعثاً طويلا، ويطيل شعر لحيته بطريقة فوضوية أيضا، ويحيط رقبته بقلادة حباتها بيضاوية زرقاء، ويرتدي بنطالا فضفاضا بنّياً، وقميصاً مشجراً، كان يبدو في منتصف الثلاثينيان من عمره.
بعد أسبوع من استقراره في الشقة 107 فوجئت به يطرق بابي في المساء، قال: (جئت أتعرف إليك إن كان الوقت مناسباً، ولأعتذر عما بدر منّي، كنت قد بحثت في عشر بنايات ولم أعثر على طلبي، على كل حال لن أزعجك كثيرا، فوقتي لا يسمح بأكثر من نصف ساعة ولهذا لن أطيل عليك..).
حدثني عن نفسه وعمله ودراسته، وقال إنه غير متزوج ولن يتزوج، فالنساء يربكن عقله وصفاء روحه ويتسبّبن بضجيج سطحي لا لزوم له، ويفصّلن أحلامهن وفق طموحاتهن، ولسن واضحات في سرد أحلامهن الحقيقية، وقال مبتسماً: (لكنني لا أحرم نفسي منهن، فهن حاجة ضرورية، وأنا أعطيهن أجورهن دون نقصان، أفضل المرأة ذات المؤخرة السمينة التي إن سارت على أربع تبدو ككبش شهي..)
لم أبتسم لوصفه المرأة التي يشتهيها، ولم أشأ الدخول معه في خياراته الشخصية، حضّرت له شاياً بالزنجبيل كما طلب، وعرّفته بنفسي وصعوبة التعامل مع الحيوانات، خاصة في مجال فهم عواطفهم وأمزجتهم وحالات اكتئابهم، وبادرني بسؤال كنت أنتظره: (هل تحلم الحيوانات يا دكتور؟).
ابتسمت واشعلت سيجارة، وما أن هممت بالحديث حتى رن هاتفه النقال، لم يجب المتصل، استأذن بسرعة قائلا: (عليّ الذهاب مباشرة، المتصل رجل ذو نفوذ، ويستأنس بحديثي وتفسيري لأحلامه، ويستشيرني بسياساته ومشاريعه، سررت بالتعرف إليك، إلى لقاء قريب.).
استدار فجأة وحك مؤخرة رأسه: (أعتقد أنني رأيتك في مكان ما، آه، ألست الذي حضرت للمسرح قبل عام تقريباً، وطلبت من الناس الابتسام لكل جملة يقولها، ثم صعد الرجل الذي ادعيت أنه المخرج وطالب الناس بألا يصدقوك؟
قلت: وأنت الرجل الذي أبدى استعداده لتفسير أحلامي، أليس كذلك؟
قال: كم هي الدنيا صغيرة، بحثت عنك كثيراً، سنلتقي على كل حال ونتحدث عن حلمك، أنت رجل غير عادي ومميّز..
قلت: لم يكن حلماً، ما ذكرت كان حقيقة.. ربما كان حلماً..لا تشغل نفسك..
كان يهم بالمغادرة حين التفت راسماً على وجهه علامات التعجب كلها: (أوتمشي على الماء أيها الغزالي!)..
(3)
في الساعة الواحدة بعد الظهر، دخلت السكرتيرة الممرضة إلى مكتبي مسرعة وهي تبتسم، أخبرتني عن امرأة ترتدي عباءة سوداء تكاد أن تلتصق بجسدها، وتغطي رأسها بنقاب شفاف، صوتها ناعم وحروفها بطيئة مغناجة وتريد مقابلتي: (تقول إنها مريضة وتريد رؤيتك، ولم تغير رأيها حين أوضحت لها بأنك طبيب بيطري!).
غابت السكرتيرة وحضرت المرأة، عكست خطواتها وطريقة جلوسها ثقة وجرأة لا تتفقان مع نقابها وعباءتها، حركت رأسها المغطى متفحّصة المكتب قبل أن يستقر باتجاهي: (أنا مريضة جدا يا دكتور..).
رحبت بها شارحاً أنني طبيب بيطري.
نهضت وهي تشد العباءة حول خصرها وتعطيني ظهرها لتظهر كم هي مؤخرتها شهية وعادت لتقول بغنج مبالغ فيه: (وما الفرق؟)..
أربكني سؤالها وحركتها وتساءلت في داخلي بغباء: (فعلا، ما الفرق؟).
بعد صمت دام لثوان قلت: (هنالك فرق كبير يا سيدتي..).
أربكتني المرأة، كان غطاء وجهها يحول دون رصد انفعالاتها التي كان من الممكن أن تعكس الموافقة أو الرفض أو التحفظ.
شرحت لها بأن محافظتنا على صحة الحيوان تحمي الإنسان من أمراض كثيرة، خاصة تلك التي تنتقل إلى الإنسان.
قاطعتني: لا يهمني هذا.
بادرتها: مم تشكين يا سيدتي؟
- أشعر أنني حيوانة، وأريدك أن تعالجني؟
- ماذا تقصدين بحيوانة؟ أنت عاقلة والدليل أنك خرجت من بيتك وارتديت ثيابك ووضعت النقاب وصعدت إلى سيارة وحضرت إلى العيادة، وغطاؤك لوجهك يعني أن لديك مجموعة من القيم تلتزمين بها..
ضحكت المرأة دون تحفظ ثم تداركت الأمر: (اعذرني، أضحك من ألمي، أنا يا دكتور أشبه بالكبش، كبش محرقة أو كبش فداء لا يهم، أشعر بأنني كالإنسان الآلي، لعبة في أيدي الآخرين وأحيانا الأخريات، وأريد أن أعود إلى طبيعيتي، فلا يمتلكني أحد، ولا يضحي بي أحد.
- كيف؟
- لأعود إنسانة، أريد أن تكون لدي أحلام أسعى إلى تحقيقها، لا أن أمشي على أربع لأحقق أحلام الآخرين ورغباتهم وتهيؤاتهم، أنا الآن كالحيوان، ليس لدي أحلاماً، بالمناسبة يا دكتور، هل تحلم الحيوانات؟
تذكرت سؤال المسعودي عندما زارني لأول مرة، وقطع حديثه مكالمة هاتفية وصلته من شخصية ادعى أنها مهمة.
قلت للسيدة: الحيوانات تحلم يا سيدتي، ولكن نوعية أحلامها مختلفة، لأن عقلها مختلف.
- أنا أريد استعادة عقلي كي أحلم كالبشر.
- أنا هنا أتعامل مع الحيوانات، أنت في حاجة إلى طبيب نفسي ربما، أو مستشارة اجتماعية.
- أكره الأطباء النفسانيين، ولا أطيق الأطباء البشريين، جربتهم جميعاً، كلّما زرت أحدهم راودني عن نفسي وطلب مني الاستدارة ليمتع نظره بمؤخرتي، ولهذا جئت إليك..
- كيف كانوا يُعجبون بك وأنت ملفوفة بالسواد.
- كانوا يطلبون مني الكشف عن وجهي، وجهي وحده كان يحرك الدم في شرايينهم..
- يبدو أن وجهك شديد الجاذبية..
- أترغب في رؤيته؟
- كلا، أخشى أنني لا أستطيع مساعدتك، ولكن أريد أن أسألك سؤالا..
تفحّصتني بجدية وطلبت مني طرح السؤال فقلت: (سمعت كلمة كبش من امرأة أخرى، وأنت الآن ترددينها، ماذا تعني كلمة كبش؟).
أسرعت بقولها: (أنت طبيب بيطري وتسأل هذا السؤال؟).
ابتسمت: (لأنني طبيب بيطري أسأل عن الكبش الذي ليس بالضرورة أن يكون الكبش الذي أعرفه..).
لم تبادلني بابتسامة، مدت يدها والتقطت منديلا ورقيا وأدخلت يدها تحت النقاب لتمسح دمعها، ثم نهضت وانتقلت إلى مساحة يمكنني مشاهدتها فيه بالكامل. وضعت حقيبتها على طاولة مكتبي ثم أخذت وضعية الخروف، جثت على ركبتيها ومدت ظهرها واستندت على كوعيها وغطت رأسها وكامل جسدها بعباءتها وحركت مؤخرتها ذات اليمين وذات اليسار، ثم إلى الأعلى والأسفل مرات عدة، ثم نهضت ولتقطت حقيبتها وقالت: (هذا هو الكبش يا دكتور، هذا ما يطلبون مني القيام به مع فارق بسيط، تكون العباءة وحدها تغطي جسدي..).
شدت عباءتها حول جسدها فظهر مكتنزا وخاصة في منطقة الصدر، فتحت حقيبتها والتقطت هاتفها المحمول وقالت: (لماذا لم تدّع قدرتك على شفائي، ولم تطلب مني التمدّد على بطني على سرير الكشف، ولم تضع سماعتك على صدري ثم تنقله إلى نهدي معتذراً، ولم تكشف وجهي لتتأكد من جمالي، ولم تحاول الاعتداء عليّ..) ..
- لو كنتِ قطة لفعلت ذلك..
- تعتدي على قطة؟!
ضحِكَتْ مرة أخرى بصوتٍ أعلى وكأنها في ملهى ليلي وقالت: (ولهذا، أريد أن ألتقط صورة معك، لأقول للناس هذا رجل مختلف..).
- لست مختلفاً ولكنني أحترم مهنتي..
- أنا متأكدة أنك مختلف، تأكدت ليلة أمس بنفسي، ولهذا جئت إليك..!
لملمت نفسها وغادرت العيادة متجاهلة أسئلتي التي انهمرت كالمطر.
دخلت السكرتيرة مباشرة وهي ترسم على وجهها دهشة المأخوذ وتضع كفها على فمها المنفرج وقالت: (هل كشفت عن وجهها أمامك يا دكتور؟ لقد مرت بي حاسرة سافرة، أكاد أجزم أنها استهلكت كل مواد التجميل في بيتها..).
لم أتوقف عند كلام السكرتيرة، كان شكل المرأة وهي تقوم بدور الكبش يحتل مخيلتي. كنت مأخوذا مندهشا أسائل نفسي عن المرأة وهؤلاء الذين يطلبون منها القيام بذاك الدور.
كان مكتبي يطل على الشارع، هززت رأسي لأصحو من السحر الأسود و نهضت مسرعاً فألقيت نظرة من النافذة ثم عدت لأجلس بهدوء خلف طاولة مكتبي: (هل يعقل هذا؟).
لم تنجح السكرتيرة في استرجاعي من ذهولي، ظنّت أنني تعرضت لصدمة قد تقودني إلى شلل، ولهذا أسرعت في رش الماء على وجهي فجفلت. في تلك اللحظة حضر سمير إلى ذاكرتي وهو يناديني بالدكتور.
(4)
وأنا في طريقي إلى البيت في الساعة الثالثة عصرا، استرجعت أحداث ذلك النهار، لم يزرني طيلة فترة الصباح سوى كلب أسود أصفر العينين، كان جسده طويلاً بشكل استثنائي، اتصلت بالسكرتيرة مستفسراً عن صاحبه فقالت إن الكلب دخل وحيداً واتجه نحو مكتبي مباشرة وربض هناك ريثما نهضت وفتحت الباب وأقفلته، فهي تخاف من الكلاب السود بناء على حديث نبوي يقول إن الكلب الأسود شيطان. تذكرت الحديث حين دلف الكلب بهدوء وجثا على قوائمه، تقدمت منه وقرفصت أمامه متأملاً وجهه، كان حزيناً جداً. تساءلت إن كان الحزن يصيب الشياطين أيضا، مسدت على رقبته فازداد رقة وذرف دمعتين سقطتا على بلاط المكتب. لم أجرؤ على لمس دمعتيه، كانتا تفوران كأسيد المشروب الغازي. كان يلهث كمن ركض لمسافة عشرة كيلومترات متواصلة. ظللت قبالته أتأمل صمته وهدوءه، وضعت طاسة ماء أمامه فلم يشرب. وفجأة، دخلت سيدة في أواخر الأربعينات من عمرها وقدمت اعتذاراتها بلغة إنجليزية ركيكة وقالت: (كنت أزور صديقتي التي تسكن في الشقة المجاورة حين افتقدت صاحبي الأسمر فجأة، ونصحتني بالبحث عنه في عيادتك، هذا جميل جداً، ومناسبة رائعة لأسألك يا دكتور..).
أخبرتها بضرورة فتح ملف لصاحبها تدوّن فيها اسمه واسمها وعمره إن أرادت علاجه أو الحصول على استشارة. فكّرّتْ بالأمر وقررت الاستجابة للإجراءات. عادت بعد قليل لتقول:
- لقد أدرك “دودو” من تلقاء نفسه أنه يعاني من أمر ما، فهو منذ ثلاثة أيام كسول جدا، ويرفض السهر معي أو الخروج للفسحة، بل إنه امتنع عن الطعام والشراب، وأشياء أخرى..
- هل تناول طعاماً خارج البيت؟
- كلا، جميع وجباته أحضرها له من أرقى مراكز التسوق، وأحرص على التأكد من تاريخ انتهاء الصلاحية.
- هل يعاني من إسهال؟
- كلا ..
- هل لديكم حشرات في البيت؟
- كلا يا دكتور، بيتنا نظيف جدا.
- سأجري له اختبار دم وأعطيه بعض المقويات مبدئياً، وراجعيني بعد يومين ستكون نتيجة فحص الدم قد ظهرت.
- حسناً يا دكتور، تذكرت الآن أمراً، لا أدري صلته بحالته..
- تفضلي..
- ضربته على عضوه التناسلي قبل ثلاثة أيام، ومنذ ذلك الوقت وهو على هذه الحالة. لم تخجل أبداً: كنت في حاجة إليه تلك الليلة ولم يستجب، فضربته..
- تأملت السيدة وابتسمت وطأطأت رأسي وسألتها: ولماذ ضربته؟
- على العموم، يبدو أنه يعاني من إرهاق وضعف عام، سأجري له اختبار دم، وحاولي إطعامه بهدوء، فهو صاحبك يا سيدتي. ابتسمت السيدة ظناً منها أنني كنت أردد بصوت عال الكلمات التي أكتبها. أخذت الوصفة وانحنت على صاحبها لتقوده معها، نظر إلي كأنه يستشيرني أو يستأذنني، أومأت برأسي مبتسماً فنهض وسار خلفها بخطوات بطيئة مترددة. قلت في نفسي “حتى الكلاب تعتز بذكورتها ولا تفعل أمراً إلا بمزاج”. كانت الساعة الرابعة عصراً، فكرت بالمرور ببيت المسعودي لكنني استبعد الفكرة فورا، وفضلت الانتظار حتى موعدنا بعد صلاة العشاء للذهاب إلى الهمنغواي. لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة إن يتناول المشروبات الكحولية أم لا، إن كان يرقص على أنغام موسيقى الجاز أم لا، إن كان يعرف سمير ومعصومة أم لا. الفرضية التي باغتت تفكيري باحتمال وجود صلة بينه وبينهما صعقتني وجعلتني أوقف سيارتي وأضرب جبيني بكفي، ثم ألتقط سيجارة وأسحب أطول نفس منذ بدأت أتعاطى التبغ. ركض الحارس نحوي حين شاهدني أوقف سيارتي أمام البناية، لم تكن من عادات “”أوفيسر”” المبادرة لمساعدة أحد قادم يحمل حقيبة أو أكياساً، انتظرني حتى خرجت وتقدم ليقذف الكلام دفعة واحدة: (جاءت سيدة لزيارة صديقك المسعودي بعد ظهر اليوم، لم تمكث طويلا، لكنني سمعتهما يتشاجران، كان باب الشرفة مفتوحاً كما يبدو، كان صوتها أعلى من صوته…)..
- كنت قد اقتربت من البناية التي جعلني المسعودي أنظر إليها كمأوى لتفريخ الأحلام، وشقته مختبر لها. تذكرت أنه لم يحدثني يوماً عن زيارته لأحد الجيران أو عن طلب أحد السكان استشارته في تفسير الأحلام، فربما كان يراقبهم من قبيل الدراسة والتجربة، أو ربما ليسلي نفسه أو يقع على معلومة عن أحد السكان، كأن تنزل امرأة من سيارة يقودها رجل غريب، كأن يغادر رجل سيارته وهو يعدّل من هندامه، كأن تسقط ورقة من حقيبة سيدة. كلها كانت احتمالات، لكن الحقيقة المؤكدة أن المسعودي كان يختفي بعد صلاة العصر في المسجد المجاور، ويخرج إما مصطحباً الإمام في سيارته، أو يدخل المسجد ولا يخرج منه إلا بعد صلاة المغرب بقليل. لقد تأكدت من ذلك بنفسي، فلي هواية مشابهة للمسعودي، مراقبة الداخلين والخارجين من المسجد دون هدف محدّد، ولاسيّما يوم الجمعة. كان يعجبني اصطفاف الناس فوق إسفلت الشارع وتحت الأشجار وفي مواقف السيارات، كانت تعجبني تلك اللحظة فقط، ولا تعجبني أحاديثهم خلال الاستماع لخطبة الجمعة، ولا التفاتات بعضهم كلما عبرت أنثى الشارع المحاذي، ولا تعجبني الأحذية المنتشرة في كل مكان، ولم يكن يعجبني صوت الإمام ولا لغته وهو يقرأ الخطبة دون عاطفة أو إحساس، وكأنه يقرأ موضوعاً لا يخصه، أما أكثر المشاهد الصادمة فكانت صبيحة يوم العيد؛ حين تمتلئ الساحة المحاذية للمسجد بالخرفان المذبوحة، ويقف الإمام أمام كل خروف قبل ذبحه، ويقوم بحركة بيده تشبه التصليب، ثم يهجم ثلاثة رجال ويجزون رأس الخروف، ويتعانقون بعدها.
- بعد خروج المرأة وصاحبها الكلب الأسود دخلت السيدة المنقبة. لم تستأثر المرأة وكلبها الأسود بحيّز من تفكيري وتساؤلاتي بقدر ما استأثرت به تلك المرأة التي دخلت منقبة وخرجت سافرة تاركة الريح تعبث بشعرها، لم أميّز وجهها على البعد لكن خطواتها بدت أليفة، ورنين صوتها لم يكن غريباً، عملت على نبش أعمق مكان في ذاكرتي لأصل إليه دون جدوى، توقفت عند كراهيتها اللأطباء النفسانيين ووصف نفسها بالحيوانة والكبش، وفكرت أيضا بطلبها التقاط صورة معي لتقول للناس أنها قابلت دكتوراً شريفا، كان بإمكانها التقاط صورة لي وحدي، ثم لماذا اختارتني أنا ولم تذهب إلى عيادة طبيب بيطري آخر. كان خروجها من العيادة باندفاع واستهتار مريبين.
- كنت أكتب الوصفة الطبية وأقول لها باللغة العربية: (لو كان رجلا لركلك بقدمه، أو سدد لكمة إلى وجهك الهزيل..).
- صفها لي يا “”أوفيسر””..
- امرأة سمينة ترتدي عباءة ضيقة وتغطي وجهها بنقاب.
- ماذا سمعت على وجه الدقة يا “أوفيسر”؟
- لم أميز الكلام بشكل جيد، لكنني سمعتها تقول له صارخة: أنت الحيوان، وأنت الكبش الملعون، وعليك أن تعالج نفسك في الطابق العاشر.
- هل أنت متأكد مما سمعت؟ كلامك خطير جداً يا “”أوفيسر””!
- هل كذب “أوفيسر” عليك يوماً يا دكتور؟
- كلا، لكنني مندهش.. أشكرك على كل حال.. هل زاره ضيوف آخرون؟
- لا أدري، ولكنني لمحت شابا نحيلا يدخل البناية ويتوجه إلى الطابق الأول، لم أسأله عن وجهته، لكن المرآة المقابلة لمصعد عكست رقم الطابق الذي توجه إليه الشاب.
- كيف كان يتحرك، أعني مشيته..؟
- كانت خطواته سريعة جداً، كأنه ذاهب للتشاجر مع أحد..شكرته وسرت مثقلا بالهواجس. هل المسعودي على اتصال بالمرأة التي زارتني في العيادة وبالشاب النحيل الذي قد يكون سمير؟ وإذا صح ظني بأن الشاب هو سمير فإن المرأة قد تكون معصومة، ولكن أي صلة يمكن أن تربط بين امرأة قد تكون عاهرة وبين شاب شاذ؟ المرأة تعرف مكان سكني وتعرف مهنتي مثل سمير تماما، ولديها الجرأة التامة لتقريع المسعودي وشتمه ونعته بالحيوان، إذا صدق وصف “”أوفيسر””. وصفت المرأة التي زارتني في العيادة نفسها بالحيوانة والكبش، وهذا يعني أن المسعودي يصفها دائما بالحيوانة ويستخدمها ككبش. وفي علم النفس الذي يدعيه، فإن تكرار الوصف يحط من قيمة الإنسان شيئا فشيئا حتى يبدأ بالتعايش مع وصفه، فإما يحتقر نفسه وإما يتوحش كالحيوان المفترس، فهل كانت زيارتها لتستعيد ذاتها أم أنها زارتني بترتيب من المسعودي؟ وإذا صحت كل هذه الاحتمالات، ماذا يريد المسعودي من طبيب بيطري يتردد على حانة ليلية ويحتسي الخمرة بانتظام؟ ماذا يريد مفسّر الأحلام الذي طاردني بشبكة الصيد وأراد أن يجز رأسي بسيفه؟ رافقته كأنني كنت ألتقيه للمرة الأولى. لم أتوقف عند جملته التي تلاعب فيها بمفردتي النزول والصعود. حاول تبرير وجوده في المصعد في ذلك الوقت وقال: (كنت أتمشى على السطح وأراقب مشهد ما قبل الغروب، فهو يمنحني طاقة مشبعة بفيتامين دال، ويمكّنني الغروب أيضا من مشاهدة الجهة الأخرى من الكرة الأرضية). كنت أحملق بهدوء في وجهه، ابتسم وتوجه نحو باب شقته في الدور الأول. نظرت إلى رقم الشقة وهرشت جبيني بكفي فاستيقظت من شرودي، كانت تحمل الرقم (707)، قالت السيدة مهوّنة عليّ: (لا عليك.. إنه التعب..).ابتَسَمَتْ، اكتشفت أنها كانت تراقبني حين استدرت ولوحت لها بيدي وانهمكت في الصعود. تأكدت من رقم شقتي ثم أخرجت المفتاح من جيبي بضجر وأدخلته في القفل. كانت السجادة الخضراء التي تحمل صورة أسد مطوية، تأملتها بشكل عابر ودخلت. تجولت في أرجاء الشقة، كان كل شيء في مكانه باستثناء النافذة المقفلة. من عادتي فتح النافذة قبل خروجي، لم أتوقف عند ذاك الأمر كي لا أفاقم شبهة اقتحام شقتي في غيابي، خاصة وأن المسعودي يعلم أوقات عودتي ومغادرتي أيضا. استبعدت أن يكون قد ارتكب حماقة خطيرة، فماذا ستنفعه النافذة إن كانت مفتوحة أو مقفلة! ما حدث شجعني أكثر على مقابلة المسعودي في الهمنغواي، هنالك سألعب لعبتي، وسأكون يقظاً ومراقباً ولئيماً وصائداً للنوايا أكثر مما يتخيل المسعودي، سأفسر له أحلامه التي لم يرها في مناماته، وسأسرد له حلمي بطريقة ذكية بعد أن أدعي السكر.طردت الأفكار التافهة كلها، أحسست بأن جسدي بدأ يهمد حتى أخذني النوم؛ يسلبني السلطان يقظتي بسرعة وأنا مستلق على الأريكة، ويشاكسني ليلا كأنه يقتصّ مني وأنا على السرير. أيقظني صوت المؤذن لصلاة العشاء، داهمتني فكرة مراقبة الداخلين والخارجين من المسجد. كان المسعودي أول الحاضرين، رأيته يدلف بسرعة من بابه الصغير تاركا خذاءه في الخارج، يبدو أنه أراد الاستفراد بالإمام قبل الأذان الثاني. انتظرتُ حتى يخرج المسعودي فلم يفعل، مرت نصف ساعة وهو غائب في ملكوته، أثار تلكؤه بالخروج فضولي، لم أنتظر المصعد، اعتمدت على سرعة ساقيّ واستمتاعي بهبوط الدرج كقط صغير. مررت بباب المسجد كالمخبرين؛ سير مستقيم والتفاتة سريعة للداخل مع هرش مؤخرة الرأس. كان الرجلان يجلسان إلى جانب بعضهما بعضاً شبه ملتصقين، وجهاهما إلى المنبر وظهراهما لي، تلك الوضعية شجعتني على الوقوف مباشرة لأطيل النظر، كانا منهمكين في حديث هامس، نهضا فجأة، تعانقا، وقبّل المسعودي يد الإمام. أسرعت في تلك اللحظة لأقف خلف المسجد، تلك الجهة كان تطل على مدخل البناية، تحركت مسرعاً بعد دخول المسعودي لئلا أمنحه فرصة مشاهدتي من شرفته، فهو يتوجه إلى الشرفة مباشرة حين يدخل شقته، فينظر إلى الأسفل ثم إلى الجهتين اليمنى واليسرى، ثم إلى المسجد، ويقفل الشرفة ويغيب.كانت صالة الهمنغواي مقسمة إلى ثلاثة أقسام، في الوسط تتوزع الأرائك حول ساحة الرقص التي يقع البار خلفها، وهنالك جزءان على اليمين واليسار، كانت المساحة الوسطى شبه ممتلئة، والركن الأيمن شبه مشغول، أما الركن الأيسر فقد بدا لي شبه خالٍ. كان يضع أمامه كأساً مليئا بشراب أحمر قانٍ، لم أسأله إن كان نبيذاً، طريقة استقباله لي رفعت سداً بيني وبينه، وصادرت أي فرح تلقائي متوقّع. قال: (أدير ظهري للمكان لأن الناس هنا يرتدون أقنعة كثيرة، وحين يحتسون الكحول يرتدون أقنعة أكثر، هل تعتقد أن هذه السعادة التي يدعونها حقيقية؟ لا، إن واقعهم لا يشي بالسعادة، وهذا الرقص الذي يحدث خلفي لا يشبه إلا مؤخرتي، عبارة عن بذاءة وإخفاء لحالة الازدراء والتهميش التي تنتابهم. لهذا يا دكتور، لا فائدة من النظر في الوجوه، فهي ليست صالحة للقراءة أو التفسير، وبالمناسبة، هؤلاء يأتون هنا لأن أحلامهم توقفت، ويعتقدون أن ما يعيشونه هنا نوعا من الأحلام السعيدة وتأسيساً لذكريات جميلة، وحين يعودون إلى بيوتهم يلقي عليهم سلطان النوم شباكاً ضيقة الفتحات، فلا يرون أحلاماً، ويستيقظون وهم يعانون أنواع الصداع كافةً..). فتح حديث المسعودي عن الأحلام الباب لي لأسرد حلمي على لسان صديق:ارتشف المسعودي من كأسه راسما ابتسامة ماكرة وقال: (هل هذا حلم صديقك أم حلمك؟). أجابني على أنه حلمي وقال: (البحر خير، ومحاولة الصديق إلقاء الشبكة على صديقه تعني إضمار الخير له، أما مشهد السيف الذي لم يكتمل فيعني الحماية، الصديق يقف رافعاً سيفه إلى جانب صديقه للدفاع عنه، أما مدلولات السيف فهي كثيرة وأهمها أنها ترمز للفتوحات المباركة التي حققها أجدادنا ووصلوا إلى تخوم الصين. وهنالك تفسير ثالث أتردد في البوح به حفاظاً على توازنك وتجنباً لاحتمال استهزائك..). قلت: (سمعت إمام المسجد المقابل في إحدى أيام الجمعة يتحدث عن رجل ابتلعه الحوت ثم قذفه، فأقفلت النافذة وعدت أتابع نشرة أخبار تتحدث عن قصف للبحرية الإسرائيلية لبحر غزة أدى إلى مقتل أربعة صيادين فقراء..).زل لسانه باسم معصومة ولم يصحّح ما تفوّه به وأسهب، فضحكت وقلت: (هل باطن الحوت جامعة تؤهل الناس للعيش في دولة القانون! أم في داخله معسكر تدريب للمقاتلين! أم هناك مصنع أسلحة كيماوية ستبيد إسرائيل وتخفيها عن الوجود؟ ثم من قال لك إنني أحب اليقطين أو أرغب في هداية معصومة وسمير وكل الحمير والأكباش المرتادين للهمنغواي، أنا سعيد بهم أيها المسعودي الطيب..). ضحكت بصوت عالٍ فوضع كفيه على حافة الطاولة محملقاً بي غاضباً وهمّ بالمغادرة، هدّأت من غضبه وقلت: (أنت قلبت الحلم المخيف إلى مشهد عاطفي يحمل الصدق والعاطفة وإخلاص الصديق وصديقه، وكأنك تقول إن العنف لا يعني دائما العدوان أو الإرهاب، وقد يحمل في طياته الخير، أما في إجابتك عن البند الثاني وتفسيرك بأن الصديق كان يسعى لإغراقي ليبتلعني الحوت، فقد أثار خيالي لكنني لم أتقبله، لو قلت لي أمتطي ظهر حورية البحر لفكرت بالموضوع، لكن أن تحولني إلى لقمة يمضغها الحوت ثم يبصقها، فهذا صعب يا صاحبي..). أشرت للنادلة التي لم تغادر الركن الأيسر من الهمنغواي فحضرت بسرعة:
- قال المسعودي: (أنا كنت أفسر لك الحلم فقط، إن أعجبك تفسيري خذ به، وإن لم يعجبك تغاضى عنه، لكنني على ثقة من عودتك للتفكير به مجددا، خاصة تفسيري..).
- قال بجدية: ألا تريد أن يتحقق البند الثاني من حلمك أيها الغزالي؟
- فهم المسعودي أنني أذكره بحصار غزة فقال: (وتستطيع أيضا أن تفك حصار غزة وتحرر الضفة الغربية وتمسح إسرائيل من الوجود وتوحد العرب حول كلمة سواء، وتبني دولة القانون والشريعة، وتنشر العدل والأمن والأمان، وأن تتزوج مثى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك، وربما تكون معصومة من بينهم..)..
- ساورتني شكوك بنوايا المسعودي لاستدراجي إلى منطقته التي يتلاعب فيها بأحلام زبائنه، فيحوّل الحلم إلى مشروع يتكوّن من مراحل زمنية يدر عليه دخلاً كبيرا ودائماً، ورغم ذلك أثار فضولي، ودفعني لأطلب منه بألا يتردد فقال كمن حصل على صيد ثمين ماداً عنقه نحوي كأنه يفشي لي سرا: (صديقك كان يطاردك في البحر ليدفعك نحو ما هو خير وأبقى، نحو معجزة كبيرة حدثت في القرن السابع قبل الميلاد، كان صديقك يدفعك نحو الحوت العنبري ليدخلك إلى جوفه، فتتطهّر هناك وتعترف أنك كنت من الظالمين، ثم يقذفك على ساحل لتأكل اليقطين وتعود إلى الهمنغواي تصلح معصومة وسمير، وتؤمن الفرقة القادمة من جنوب أفريقيا على يديك، وتسيطر على الملاهي، وإن شئت تواصل بيع عصير العنب اللذيذ..).
- قلت بتردد: (حلم صديقي..).
- قلت دون تمهيد: (أحد الأصداقاء اتصل بي صباح اليوم وسرد عليّ حلمه الذي وصفه بالغريب والمدهش، قال إن صديقاً له كان يطارده في البحر حاملا شبكة صيد، وإنه غاص عميقاً في الماء هرباً منه، وحين خرج إلى السطح لم يجده، فتوجه منهكاً إلى الشاطىء واستلقى على الرمل وراح في إغفاءة التعب، وحين فتح عينيه وجد صديقه واقفاً كالمارد إلى جانبه، رافعاً سيفاً ويهم بقطع رأسه أو طعنه، وحين نهض، أي صديقي، لم يكن خائفاً، ولم تكن نبضات قلبه متسارعة، فعاد إلى نومه بهدوء كأن ما شاهده كان فيلما سينمائياً لا يعنيه…).
- ما صرّح به المسعودي مسألة خاصة جداً تتعلق بمهنته في تفسير الأحلام، لم تكن تهمني إطلاقا، فالتزمت الصمت، وكنت بين الفينة والأخرى أنظر في وجوه الساهرين والساهرات، السكارى منهم واليقظات، وكنت في الواقع أبحث عن معصومة وسمير، وأتابع النظر إلى الفرقة الموسيقية، واكتشفت بعد عشر دقائق تقريباً أن الفتاة الطويلة الشقراء قد استبدلت بأخرى سمراء تتمتع بمؤخرة جذابة، كانت كلما غنّت تدور حول نفسها وتهز مؤخرتها كطاووس فيرتعش معظم من في الصالة، ويحتسي البعض كاسه أو ما تبقى من كأسه دفعة واحدة، ليطلب آخر..
- كانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها خارج منزله، كنت قد التقيته مرتين أو ثلاثاً في شقته ومرة في شقتي، وكانت اللقاءات سريعة ومبهمة تحاشى المسعودي فيها إفساح الوقت لأي نقاش من أي نوع؛ كنا نشرب الشاي أو نحتسي القهوة، ونتبادل عبارات المجاملة، ويتحدث كلٌ منا عن نفسه قليلا. وشاهدنا في إحدى الزيارات أكثر من نشرة أخبار، كانت تعليقاته على محتواها حذرة ومتحفظة. في لقاءاتنا كلها بدا لي متردداً في طرح فكرة كانت تظهر وتختفي على وجهه. وزاد من يقيني، استرجاعه لما حدث على المسرح وبحثه عني، ولم يبح لي بتلك المسألة إلا منذ وقت قصيرة.
- كانت الصالة نصف مطفأة، وفرقة الجاز تعزف ألحانها الشهية. تقدّمت إحدى النادلات وطلبت مني اتباعها، حين صعدت الدرجتين المؤديتين إلى الركن الأيسر رأيت المسعودي يدير ظهره للفرقة الموسيقية والناس المحتلين للمنطقة الوسطى، لم يقف لتحيتي، اكتفى بالإشارة لي بالجلوس مع ابتسامة لم توح لي بشيء، تساءلت بيني وبين نفسي عن سبب عدم وقوفه للترحيب بي، هل خشي أن يتعرف عليه أحد؟ وهل مؤخرته مشهورة حتى يُعرّف بها! أم أنه كان قلقاً متوتراً وحرص على إخفاء رعشة يده.
- (6)
- بدأت الصلاة، انطلق صوت الإمام الحاد الخالي من أي خشوع أو حنان أو رهبة، كان يقرأ القرآن بسرعة، وينتقل بين الركعات كأن بعوضة كانت تلسعه من قفاه حتى انتهى بسرعة قياسية. خرج المصلون يهرولون عائدين إلى بيوتهم، منهم من دخل البناية ومنهم من استقل سيارته واندفع كأنه في سباق.
- أذّن لصلاة المغرب، موعدي معه كان بعد صلاة العشاء، عندها ستكون الساعة التاسعة إلا قليلا، اتفقنا على الذهاب كلٌ بمفرده. لم يسألني عن عنوان الهمنغواي، ولا عن برامجه وأجوائه وطبيعة زواره والفرق الموسيقية والمشاريب.
- اكتشفت تفكيري الطفولي حين استلقيت على الأريكة؛ كيف حصرت سبب اقتحام شقتي بفتح نافذة أو إغلاقها! فربما كان السبب تثبيت آلات تصوير، أو سرقة أوراق، ولكن لم تكن لدي أوراق ضرورية ومهمّة، جميعها ملفات لكلاب وقطط وخيول مرضى، لا أسرار لبشر، إلا إذا أصبحت أمراض الحيوانات من الأسرار الخطيرة جداً، كما يتعاملون بمرض إنفلونزا الخنازير!
- اعتذرت بهدوء المغيّب وقلت: (ظننت أنني وصلت شقتي، لأول مرة أصعد الدرج، أرجو أن تقبلي اعتذاري سيدتي، أنا طبيب بيطري أسكن في الشقة “1007”، ولن أنتظر المصعد مرة أخرى..)
- أسلمت نفسي للمصعد الذي توقف في الطابق السابع مرة أخرى، اكتشفت ذلك حين توجهت لأفتح الباب ظنّاً مني أنني أفتح باب شقتي، لكنني فوجئت بامرأة تفتحه، كانت في بداية العقد الثالث من عمرها، تداخل جمال وجهها وطفولته بوجه المسعودي وضبابيته، قالت بلغة إنجليزية ركيكة وبصوت هادئ: (يبدو أنك أخطأت يا سيدي..).
- لم أجب، دعاني لاحتساء فنجان قهوة فبقيت صامتاً، غادرني وهو يقول: (موعدنا المساء للذهاب إلى الهمنغواي، أليس كذلك؟).
- دون وعي منّي، وجدتني أقف أمام الرقم (7)، فرحتُ من قدرتي على صعود ثمانين درجة دون الإحساس بالإعياء، وحزنت لأنني امتلأت بالضياع، فخرجت وانتظرت المصعد في الطابق السابع، حين هممت بالدخول، ظهر المسعودي فجأة أمامي. لم يرتبك وقال بثقة: (لا بأس من مرافقتي في النزول، لكنني لن أرافقك في الصعود..).
- أدركت سذاجة تساؤلي حين تذكرت أن العاهرة تقدّمت الشاذ في صالة الهمنغواي للجلوس معي، وكأن الاختبار كان يقضي تقديم اللذة الطبيعية أولا، فإن لم يستجب المستهدف، يغامر الشاذ في الاستعراض، فإن فشل الإثنان اتهماه بالردة!
- (5)
- دعوت “أوفيسر” للغداء فاعتذر، ذكّرني أنه يتناول وجبة الغداء في الثانية ظهراً.
- ما اسمك أيتها الجميلة؟
- جاكي
- يا جاكي، أريد كأساً ككأس صديقي.قال: (أستطيع رؤيتها بعينيّ الخلفيتين، ومعها كل من في الصالة من خلال أصواتهم وأصواتهن، ويمكنني رؤية حركة الحضور في عينيك، أعلم أن المؤخرة هي معيارٌ الجمال أو لنقل الجنس هذه الأيام، ولكنه معيار مبتذل وحيواني، ألا ترى معي يا دكتور أن الإنسان كلما كبرت مؤخرته اقترب من الحيوان وطريقة مشيته وخطواته! أنا أقرأ كل من تحاول تكبير مؤخرتها أو إبرازها على أنها دعوة للجماع الخلفي، أي دعوة للحيوانية المبتذلة، هل تحب المؤخرات الكبيرة يا دكتور؟). قال بامتعاض وارتباك: (نعم…). غادر وهو يغطي الجانب الأيسر من وجهه حتى أصبح خارج الهمنغواي. تغلبت على حضوره الموتور وانشغلت بمراقبة ضيوف الجزء الأوسط من الصالة، والاستمتاع برقص المغنية السمراء، لم يكن مثيراً، فأنا لا أستطيع تخيّل مؤخرة نافرة بذاك الحجم دون ثياب، أحسست أنها مركبة ولا تمت بصلة لجسدها وتهيأ لي أنها ستخلعها عند عوتها إلى بيتها أو غرفة الفندق الملحق بالصالة. لم أجب، فأتبعها برسالة أخرى: (هل أستطيع الحضور وأسعد بالسهر معك؟).قالت حين التقت عيوننا: (لا أعتقد أنك تستطيع زجري أو منعي من الجلوس هنا، تستطيع المغادرة إن شئت يا دكتور، أما أنا فسأبقى هنا، تعجبني تلك السمراء..).
- أهملت رسالتيّ سمير، وما كدت أقفل هاتفي حتى وجدت نفسي في مواجهة مباشرة مع معصومة، كانت تجلس قبالتي على طاولة أخرى.
- جاءتني رسالة نصيّة من سمير: (كيف حالك يا دكتور، هل أنت في الهمنغواي؟).
- نظر المسعودي إلى ساعته وانتصب منتفضا وقال: (عليّ الذهاب يا دكتور، تستطيع البقاء والاستمتاع بوقتك، فالفاتورة مدفوعة مقدّماً، سررت بالحديث عن المؤخرات معك..!).
- أحتسيت جرعة كبير من النبيذ وقلت: (زارتني صباح اليوم في عيادتي امرأة وصفت نفسها بالكبش، وجعلتني أرى ما تعنيه المفردة، في الحقيقة يا صديقي لم أر أجمل وأشهى من مؤخرتها، أعني من الناحية الجمالية وليس الجنسية، كأن مؤخرتها كانت مصممة لجسدها، أنا مع كل شيء طبيعي، إذا كانت المؤخرة طبيعية ستكون جميلة ومنسجمة مع الجسد، قل لي يا صديقي، هل هناك زبونات إناث يطلبنك لتفسير أحلامهن؟).
- لم تطل الغياب، عادت تحمل كأساً فيه سائل أحمر قانٍ، ارتشفت منه مباشرة ثم أعدت الارتشاف ثم أجهزت على محتوياته. كانت جاكي تراقبني، نظرت إليها فابتسمتْ وتقدّمت مرة أخرى من طاولتنا، طلبت كأس نبيذ وطبق خضروات طازجة وقطعة جبن. وقلت للمسعودي: (طعم البرتقال الماوردي لذيذ! هل تعجبك المغنية السمراء ذات المؤخرة البرونزية الدّسمة؟
- كيف عرفت بأنني دكتور؟
- استمعت إلى ضيفك وهو يناديك، هل أستطيع الانضمام إليك؟ مؤخرتي أجمل من مؤخرة تلك السمراء المصطنعة.
- هل تعنين مفسر الأحلام، الحيوان الذي يجب أن يتعالج عندي؟ قلت لها: (أرجوك، لا تنفجري بالبكاء أو بالصراخ، ولا تحتسي كأس النبيذ دفعة واحدة ولا تطلبي غيره، الصدفة حمالة الاحتمالات، وما لا يعرفه المجرم الذكي أن طفلا قد يشي به أو حارسا يسمعه أو امرأة تنتقم منه، غضب المرأة يصل الشارع سريعاً فيربك حتى الشاحنات، فكيف إذا كانت تصرخ وهي في الطابق الأول وتنعت صاحبها أو مشغّلها أو سيدها بالحيوان والكبش..). لم أجبها، لكنني ابتسمت وتابعت رقصة الشاب الذي حشد كل مواهب الإغواء والإغراء باحتراف كأنه كان يؤدي رقصة (الستربتيز)، أسر نساء الصالة وسحرهن فتهيّجن وأنطلقن في الرقص وعيونهن تلاحق ذراعيه وكفيه وخصره المتلوي يميناً ويساراً، ثم إلى الأمام والخلف كأنه في حالة انتشاء. لم يعرف أحد في الصالة شريك المغني المتخيل، أكان يحلم بامرأة أم برجل؟
- حين طالت نظرتي التفتت معصومة وشهقت: الحقير، إنه يغوي النساء، كيف تسمح له إدارة الهمنغواي بهذا الإسفاف!
- التقطت سيجارة من علبتها المذهبة التي تخفي نوعها، أشعلتها وقالت متصنعة الغباء: (عم تتحدث يا دكتور؟).
- لم أراقب ردة فعلها على تلك المعلومة حتى لا تنفر أو تتوتر، ولم آت على حجم مؤخرتها التي فاضلت بينها وبين المغنية السمراء، وتجاهلت ذكرها لمعلومة تتعلق بالفاتورة المدفوعة، ووافقت على حضورها، وتركتها تحرك جسدها المكتنز ما بين الطاولة الصغيرة والكرسي باستعجال، وحين جلست، رفعت رأسي لأخترق عينيها اللتين وجدتهما تتأملان كل قطعة من وجهي، كأنها كانت تحاول قراءة حركة حاجبيّ وشفتيّ ووجنتي والتفاتتي. كانت ظلال صدمتها مرسومة على ارتخاء ملامح وجهها وكأنها ستهم بالبكاء، لمحت حزن امرأة مغدورة تخفي موجات حزن بدأت تتطلاطم في رئتيها فيظهر صدرها وهو يهبط ويصعد.
- منذ متى أنت هنا يا معصومة؟
- لن أكذب عليك، قبل حضور صديقك مفسر الأحلام..سألتها عن سمير فقالت إنه لن يحضر اليوم.انصرفت غاضبة مرتبكة، كانت مؤخرتها تهتز بتوتر، شقت الصفوف والطاولات متجاهلة ابتسامات الرجال والنادلات المرهقات الذين مرت بهم. داهمتني الأصوات التي خرجت من خلف الأشجار في موقف سيارات الهمنغواي، وصوت الرجل الذي لم أدر كيف اقتحم سيارتي وأطعته بعدم الالتفات. تذكرت أنني احتسيت ليلتها كاسين من النبيذ الفرنسي حلو المذاق، وأنني لم أثمل أيضا؛ لم تكن المرة الأولى التي احتسي فيها كأسيّ نبيذ خفيفين، وهذا يعني أن النبيذ بريء من ثمالتي، هذا إن كنت قد ثملت حقا في تلك الليلة.شعرت بحاجة ماسة للذهاب إلى بيت الراحة، استجبت لنداء الطبيعة، التقطت هاتفي المحمول ومفاتيح سيارتي وتوجهت بسرعة على أن أعود قبل عودة الفرقة، ولمزيد من الاحتياط، ارتشفت ما تبقى في كأس النبيذ دفعة واحدة، وطلبت من النادلة أخذه عن الطاولة، تجنّباً لأي لبسٍ أو تهيؤات، وقررت حين أعود من تفريغ مثانتي طلب زجاجة ماء وطبق بطاطا مقلية مقرمشة، وأتسلى بهما حتى تنتهي الفرقة من وصلتها. احترت كيف أبدأ حديثي معه، انتظرت حتى اختفت حركة الدخول والخروج، وقفت إلى جانبه أراقب الأشجار (الناطقة) عن بعد. قلت له دون الالتفات إليه: (أعتقد أنك كنت مناوبا طيلة الأسبوع الماضي..).صرنا في مواجهة بعضنا بعضاً فقال: (لا أعتقد، ثم أن الأصوات القادمة من الداخل، حين يُفتح باب الصالة، تطغى على أي صوت، هل حدث لك أمر ما؟).تأملني مليّاً بنظرات كانت تشكك في وعيي وقال: (هل أكثرت من الشرب تلك الليلة؟).مشيت بسرعة وثبات حتى لا يظن بي الظنون أو يرسل خلفي أحد رجال التحريات. دخلت سيارتي مباشرة دون الالتفات إلى الأشجار وانطلقت. قبل خروجي من البيت كنت قد أوصيت “أوفيسر” أن يحجز موقفاً لسيارتي، لم أجده ولم أنجح في العثور على موقف قريب من البناية، فاضطررت للابتعاد حتى حظيت بموقف يبعد أكثر من مائتي متر. دخلت باب شقتي ورميت جسدي على السرير، شعرته يسقط في هوة سحيقة لا قرار لها، وأحلامي وتهيؤاتي تسافر في الاتجاهات كلها؛ رأيت أنني وصلت الطابق العاشر، واصلت الصعود مستخدما الدرج لأصل إلى السطح، حيث غرفة الحارس “”أوفيسر””. كانت معتمة فاطمأن قلبي. حرصت على هدوء خطواتي وعدم الاصطدام بعلبة معدنية فارغة أو ماسورة حديدية. قررت العودة إلى شقتي، عبرت الممر الضيق المحاذي لنافذة غرفة “أوفيسر”، سمعت عند منتصف الممر أنيناً خافتاً ينبعث من الداخل، تسارعت نبضات قلبي، كان الأنين مكتوماً، ويشبه صوت اللذة الخجولة، اعتقدت أن “أوفيسر” يتمتع بلحظات ليلية ساخنة. مررت سريعا حتى وصلت باب السطح، لكن أمراً جعلني أستبعد فرضية أن تكون امرأة في أحضان الحارس، كان الأنين يتكرر بانتظام وبالنغمة ذاتها. عدت لأتأكد، اختفى الصوت فور وصولي، عادت لي الفرضية الأولى؛ “أوفيسر” يتشاقى. اتجهت نحو باب السطح وعدت مباشرة وبسرعة، معاتباً نفسي لشكها بفرضيتي الأولى، وقفت أمام باب غرفته، حاولت فتحها، كانت مغلقة من الداخل، كل ذلك أكد وجود “أوفيسر” داخل غرفته وأنه أقفل بابها بيده. لم أجبه، الحديث عن النساء المثليات لا يتحمله عقل “أوفيسر” القادم من الريف النائي، ثم أنني استبعدت صفة السحاق عن السيدتين دون دليل.أذن الإمام لصلاة الفجر بصوت حاد جارح أخرجني من تأملاتي وفرضياتي اللئيمة. انتظرت ربع ساعة وألقيت نظرة من نافذتي على أمل مشاهدة “أوفيسر”، أطلت الوقوف وأطال الغياب. عدت إلى سريري والقلق ينهش مؤخرة رأسي. واصلت تقلبي حتى بدأ الضوء يخترق بنعومة ظلام غرفتي، فعزمت على الصعود ثانية لأطمئن على الحارس. كانت القضية غامضة، على الأقل بالنسبة لطبيب بيطري لا يفقه بالقانون البشري شيئاً؛ فماذا كان يعني وجود رجل داخل غرفته ملقى على الأرض مربوط اليدين والساقين جاحظ العينين كبقرة نافقة! وفي فمه منديل أحمر، وباب غرفته مقفل من الداخل، والمفتاح في القفل أيضا، والنافذة الوحيدة مغلقة؟! من غير المعقول أن يكون “أوفيسر” قد ربط يديه وساقيه وحشى حلقه بمنديل لينتحر، هنالك طرق أسهل للانتحار، ولهذا، حين حطمت الشرطة الباب ووجدت الرجل على هيئته تلك، كان عليهم توجيه التهمة لي، وربما اعتباري قاتلا محترفاً يدخل من ثقب في الباب فيخنق ضحيته ويخرج من ثقب في النافذة! ليس في الأمر فانتازيا بالنسبة للمحققين، فهم يضعون الاحتمالات الواقعية والخيالية حول طرائق تنفيذ الجريمة. لم يكن “أوفيسر” سوى شاب تلقائي متسامح مقبل على الحياة، متعاون مع الجميع، يدافع عن نساء ورجال قاطني البناية ويوفّر لهم الأمن قدر استطاعته، كان دائم الابتسام ويخطط للزواج حين يعود إلى بلده، وكنت أنوي مساعدته وربما حضور حفلة زواجه. عرض عليّ أكثر من صورة لفتيات أرسلتها أمه ليختار، وكنا نتحدث عن مواصفات كل واحدة منهن، وأسأله عن الفتاة التي يرغب بها؛ سمراء أم بيضاء، نحيفة أم مكتنزة، طويلة أم قصيرة، غليظة الشفتين أم رقيقتهما، فقد كان “أوفيسر” جميل الوجه، يمزج ما بين الملامح الصينية والهندية، يتمتع ببنية قوية وجسد رشيق، وكانت أمه تدرك هذا فاختارت أجمل جميلات القرية، وأرسلت صورهن له ليختار، كأنه ملك متوج على عرش الصبا والسلطة، وما عليه سوى الإشارة حتى تقبل به الفتاة. لكنه قُتل. حين نظرت إلى عينيه الجاحظتين حضرتني صورة أمه وهي تلوح له بيدها؛ فكرت بالوسيلة التي سأنقل بها خبر رحيل الشاب الجميل، وبمكان دفنه، وبمن سيتحمل تكاليف سفر الجثمان، ومن سيرافقه؟ أسئلة داهمتني وكنت أجيب خفية بالإشارة نحوي، أنا من سأرافق جثة “أوفيسر” إلى بلده، وسأسلمه جثة هامدة لأمه، التي ستحرق صور الجميلات مع جسده النضر. موت الغرباء موتان، موت في الغربة وموت في الوطن، وأنا كنت غريباً مثل “”أوفيسر””. همس بهدوء: (عليك مرافقتنا إلى مركز الشرطة لأخذ أقوالك يا دكتور..)، فهززت رأسي بحزن شديد موافقا. فكرت في الأمر ولم تخطر ببالي دوافع القتل، تساءلت في تلك اللحظة فقط عن سبب قتل “”أوفيسر””، والسر الذي يكمن في تلك الطريقة الاحترافية والتخطيط الجهنّمي؛ ربطُ يديّ وساقيّ الضحية، وحشو منديل أحمر كبير في فمه، والاحتفاظ بالبيت مقفلا من الداخل بالمفتاح. وتساءلت: (هل كان ينوي إبقاء الضحية ليومين حتى تفوح رائحته، ويكون القاتل قد ابتعد؟ فور وصولنا إلى مركز الشرطة، وُضعت في غرفة المحقق وحيداً لأكثر من عشرين دقيقة، عانقت مخيلتي وجه “”أوفيسر”” وهو عريس يتمتختر أمام أمه، فذرفت الدموع بغزارة حتى كدت أختنق. في تلك اللحظة دخل المحقق، وبادرني بالسؤال:
- وجدت التساؤل سخيفاً..).
- تذكرت المسعودي قبل اختفائي داخل سيارة الشرطة، رفعت رأسي نحو شرفة شقته فلم أجده، مع أن الوقت كان مناسباً لمراقبة السكان وهم في طريقهم إلى أعمالهم، ليرصد أحلامهم كما يدّعي، وبدلا من التفكير بما ستؤول إليه أحداث قتل “أوفيسر”، انشغلت بغياب المسعودي، وكدت أن أقول لأفراد الشرطة أن يطمئنوا على رجل يعيش وحيداً أيضا، ربما كان القاتل يستهدف العزّاب الوحيدين، ومفسّري أحلام الأثرياء.
- أمسكني الشرطي من كتفيّ طالبا مني الابتعاد لتسهيل دخول رجال الإسعاف والطبيب الشرعي، كانت النتيجة الأولية الموت خنقاً مع التخطيط لفحص آخر في المشرحة أو المستشفى.
- لم يكن سكان البناية في حاجة لمن يوقظهم، كان كل بيت يشهد حركة نشطة استعداداً للذهاب إلى العمل، لكن صوت سيارة الإسعاف التي صاحبت الشرطة عجّل في تجمهر السكان أمام البناية وعلى شرفاتها الضيقة، شاهدتهم وهم ينظرون إلي وأنا أسير ذليلا وسط مجموعة من رجال الشرطة الذين لم يقيدوا يدي ولم يعاملونني بقسوة، ربما كان قائد القوة مقتنعاً ببراءتي، فحين خُلع الباب ولمحت “أوفيسر” ملقى على الأرض، اندفعت بقوة نحوه، لم أستجب لمطالبة رجال الشرطة بالابتعاد، ركعت أمام القتيل مذهولا لا أقوى على الكلام: (من فعل بك هذا يا “أوفيسر”؟). صرخت بصوت عالٍ وبكيته كصديق عزيز.
- طرقت الباب بهدوء، ثم بطرقات أقوى، ضغطت على جرس الباب وانتظرت، لم يخرج “أوفيسر”، دفعت الباب بقوة دون طائل، قررت الاتصال بالشرطة. حضروا على وجه السرعة واصطحبوني معهم. لم أكن أعلم أن التبليغ عن باب مقفل سيبقيني في مركز الشرطة طيلة ثلاثة أيام قضيتها بين الاستجواب المتواصل والتوقيف. كان التحقيق في اليوم الأول يركّز على اتهامي. قال المحقق إن عناصر الجريمة كلها كانت متوفرة؛ جريمة حدثت بعد الفجر بقليل. كنت عائداً من ملهى ليلي ورائحة النبيذ والسجائر تفوح من أنفاسي، وأسكن في الطابق العاشر، أقرب الطوابق للضحية، وأنا طبيب بيطري قد أقتني مادة مخدرة تسهل سيطرتي على “أوفيسر”، علاقتي القوية ب”أوفيسر” وفرصة الحصول على نسخة من المفتاح، الضجر الذي قد يصيبني كعازب، الاكتئاب الذي يقودني إما إلى الانتحار أو القتل. لم أنكر كل تلك الحقائق بما فيها عودتي من الهمنغواي باستثناء التفكير بالحصول على نسخة أخرى من مفتاح غرفة “أوفيسر” وتدبيري لخنقه.
- وأنا أتقلب على سريري المزدوج، داهمني ظنّ بوجود “أوفيسر” مع تلك السيدة في غرفته، وتساءلت عن سبب ذهابه إلى غرفتها.
- لم أستطع النوم، كان “أوفيسر” عزيزاً علي، لم أعامله يوماً كحارس بل كصديق وجار، ما ربط علاقة متميزة بيننا. كان أحيانا يأتي للسهر في شقتي، نتناول العشاء ونتابع فيلماً هنديا، ونمارس النميمة على سكان البناية ويمشي كلٌ إلى شأنه. لا أذكر أنه حدثني يوماً ما عن علاقاته النسائية، رغم أنه حدثني باستفاضة عن نساء البناية وميولهن ونشاطهن الجنسي مع أزواجهن ومدى التزامهن. حدّثني أيضا عن تلك المرأة القاطنة في الطابق السابع، لكنه عجز عن وصفها أو تصنيفها، فقد أوحت له غير ذي مرة بمرونتها، لكنه حين اختبرها أبدت استياءً وغضباً فاعتذر، وبرر لها عدم قصده الإساءة لها، قال: (دعتني في إحدى المساءات لإصلاح الكهرباء في المطبخ، وحين راحت مني التفاتة نحو غرفة الضيوف رأيت صديقتها ترتدي ثيابا قصيرة جداً، أما هي فكانت ملابسها شفافة، وحين انتهيت من إصلاح الكهرباء، وقفت عند باب الغرفة التي تضمهما، كانتا تلتصقان ببعضهما كعاشقتين، وتنظران نحوي نظرات ملؤها النداء والتشهّي، ابتسمت وامتدحت ثيابهما وجمالهما على استحياء، لكن صاحبة الشقة نهضت بغضب وقالت: “إذهب إن كنت قد انتهيت..” فذهبت. ماذا كانتا تفعلان يا دكتور؟ لأول مرة أعرف أن المرأة يمكن أن تعشق امرأة أخرى، هل يمكن هذا أيها الغزالي..؟”).
- كان شكل المسجد كعلبة معدنية مضغوطة من الأعلى، المئذنة بدت قصيرة للغاية، حضرني الإمام، لا شك أنه كان يستعد لأذان الفجر الذي كان سيحين بعد ساعتين. لم يكن الإمام يسكن في بنايتنا، ولا في المسجد. منعت الحكومة المبيت في المساجد والكنائس والمعابد والأديرة. المسعودي وحده كان يعرف مكان مبيته. هطلت على رأسي فكرة أن أوقظ المسعودي وأسأله عن مكان مبيت الإمام، لكنها اصطدمت بقشرة رأسي وغادرت فورا.
- يبدو أن “أوفيسر” نسي أو نام باكراً. كان باب البناية مغلقا، درت حول البناية وألقيت السلام على القطط الكسولات، وتحدثت مع بعضها ثم دلفت من الباب الرئيس.
- (7)
- تركته ومضيت بعد أن تمنيت له بلغة رزينة ليلة سعيدة.
- ترددت في سرد ما حدث، لكنني حزمت أمري وقلت: (قبل دخولي سيارتي سمعت أصواتاً صدرت من خلف الأشجار تلك، وحين جلست خلف المقود حدثني شخص كان يجلس في المقعد الخلفي، بلغة التهديد والترهيب..).
- تخيلته يهز برأسه موافقاً، فتابعت: (هل سمعت حديثا يأتي من خلف تلك الأشجار بعد منتصف الليل؟).
- نفّذت كل الخطة بحذافيرها، التهمت طبق البطاطا بسرعة، كانت مالحة أكثر من اللزوم، وشربت زجاجة الماء رغم طعمها الغريب، حملت حاجياتي وانطلقت خارج الصالة. كان رجل أمن الهمنغواي واقفاً كعادته يتأمل الفضاء الخارجي ويدقق بالخارجين الكثيرين والداخلين القليلين، وكما يحدث في المطارات، لم يكن الرجل يولي كثير اهتمام للخارجين، كان يراقب مشيتهم فقط، أما الداخلين فكانوا يخضعون لتفتيش سري يجريه بعينيه الخبيرتين، وقلّما أوقف أحداً، إذ بات من المسموح للجميع الدخول وممارسة الضياع لساعات، كل يتصرف حسب ما يختزنه من صراصير تحوم داخل جمجمته.
- قررت مغادرة الصالة بعد الوصلة التي استمرت لنصف ساعة، وعزمت على التحدث إلى رجل الأمن الواقف في الخارج، وفحص الأشجار بدقة، وأن أبدأ بفتح الباب الخلفي للسيارة أولا، وقد أدخل فأجلس هناك وأقفل الباب وأنتظر بعض الوقت قبل أن آخذ مكاني المعتاد خلف المقود.
- أخذت الفرقة الموسيقية استراحة مدتها ربع ساعة. انطلقت موسيقى هادئة وانشغل السهارى بالأحاديث والنكات والضحكات.
- أخرجت منديلا أحمر من حقيبتها ومرآة صغيرة، أصلحت مكياجها ثم لملمت جسدها ونهضت معتذرة عن مواصلة السهرة وادّعت إصابتها بإعياء باغتها في معدتها، ووجع في نهديها، وتعتقد أنها غير صالحة لمرافقة أحد. أخبرتها أن بإمكاني تهدئتها بسهولة فردت غاضبة: (لست حيوانة يا دكتور..).
- أخبرتها أنه ليس صديقي، وهو ليس أكثر من جار في بناية جمعتنا الصدفة وحدها، هو يسكن في الطابق الأول وأنا أسكن في الطابق العاشر، ولم نجتمع إلا في مرات قليلة جدا.
- هل أنت نادم على قتله؟
- لم أقتله حتى أندم على قتله؟
- ربما عدت ثملاً وحصل بينك وبينه شجار ولم تتمالك أعصابك.
- مسحت دموعي بمنديل أحمله في جيب سروالي وقلت بهدوء: (أرجو أن تسمعني وتصدقني أيضا: أولا لم أكن ثملاً، ويمكنك الاستفسار من المسعودي ومعصومة، وثانيا، تحتاج الطريقة التي قُتل بها إلى تخطيط دقيق ومحكم، وثالثاً، لقد درست الطب البيطري كي أتجنب التعامل مع دم البشر وأمراضهم وموتهم وجنازاتهم، أنا كنت أخطط لمساعدة المغدور في تكاليف زواجه، “”أوفيسر”” كان يخطط للسفر والزواج بفتاة جميلة من قريته، اخترناها معاً، نعم عرض عليّ صور الفتيات واستشارني في أمور كثيرة، وأخيرا، “أوفيسر” غريب مثلي، وأنا لدي تعاطف كبير مع الغرباء من جميع الأجناس والأديان والمذاهب. حين أسمع أحدهم يتحدث بلغة لا أفهمها، أدرك كم هو فرح بلسانه، استخدام حروف اللغة الأم في الغربة هو الشوق للوطن الأم، مهما كان ذاك الوطن بعيداً أو فقيراً. باختصار، كنت إلى جانب “”أوفيسر”” وليس ضده.
- من هو المسعودي، ومن هي معصومة..؟
- لا أعرف اسمهما الكاملين، رجل قدّم نفسه لي حين حضر إلى البناية باحثاً عن شقة تقع في الدور الأول، وحصل سوء فهم بيني وبينه، وبينه وبين “أوفيسر” أيضا.
- ومن هي معصومة؟
- معصومة امرأة مكتنزة مثيرة عرضت نفسها عليّ في مطعم ونادي الهمنغواي، ورفضتها بأدب، أخاف من غضب النساء حتى العاهرات منهن. ثم قابلتها مرة ثانية في المكان ذاته بعد مغادرة المسعودي بقليل، وفرضت نفسها على طاولتي، وحين حدثتها عن صوت امرأة انطلق من شقة المسعودي، نعته بالحيوان، ونصحته بعلاج نفسه في الطابق العاشر، أي نصحته بالعلاج عند طبيب بيطري.. عندي..
- واصل .. واصل..
- لا شيء يا سيدي، تغيّر لونها وارتبكت وأشعلت سيجارة، ثم قبل مغادرتها، التقطت منديلا أحمر من حقيبتها وجففت عرقها عن جبينها ووجنتيها… وغادرت..
- كتب المحقق جملتين على ورقة منفصلة وقال: (لا تحاول إلصاق التهمة بأحد، أين تسكن معصومة هذه..).
- لا أدري.. لكنني لست واثقاً من أن المرأة التي تشاجرت مع المسعودي هي معصومة، ثم إن امرأةً لا تستطيع تنفيذ عملية القتل وحدها..
- مرة أخرى، تحاول إبعاد التهمة عنك، وإلصاقها بشخص آخر..
- لم أتهم أحداً .. كتب المحقق جملة قصيرة على ورقة بيضاء منفصلة أيضا، وضغط على جرسٍ مثبت على الطاولة، فدخل شرطي أخر، قرأ الورقة وقادني خارج المكتب، وضعني في غرفة قريبة خالية من أي شيء سوى سجادة مهترئة تحسستها فأدركت أنها غرفة التوقيف. بعد عشرين دقيقة تقريباً عاد الشرطي ذاته ومعه مطفأة سجائر ووضعها على الأرض وقال: (القانون يمنع التدخين، وهذا استثناء خصّك به المحقق، فلا تدخّن كثيرا، سيجارة واحدة تكفي لخفيف توترك، فأنت ما زلت في بداية الطريق..). لم أتعرض في حياتي لاستجواب، حتى أنني لم أستجوب أحداً من مرضاي، الحيوانات لا تنطق، لكن يمكن رؤية معاناتها من عيونها وجلساتها وسيرها. فشلت فشلا ذريعاً في استعادة الجمال وطرد المحقق، وجدتني فجأة أمام جريمة بشعة، وأنا المتهم الوحيد. لم أستطع قراءة قناعات المحقق، هل صدّق إنكاري أم لا يزال يدور في فلكي. كل ما فعله أنه كتب جملتين على ورقتين وأعطاهما للشرطي، يبدو أنه سيسأل عن المسعودي ومعصومة. هكذا أردت إقناع نفسي. قادني إلى مكتب المحقق بهدوء، سألني إن كنت أرغب بشرب أي شيء.
- مرت ساعتان على استلقائي في مربع تملؤه العتمة، فُتح الباب بعدها فدخل ضوء إضافي، الشرطي ذاته تقدّم مني فنهضت، قال مبتسماً: (يبدو أنك أوقفت التدخين..).
- التعامل مع الأسود إشكالية كبيرة بالنسبة لي، قررت التمدد على أرضية الغرفة وأغمض عينيّ وأمارس التأمل. استرجعت شريط فيديو يتحدث عن التأمل، ويشجع على تخيل المناظر الطبيعية الجميلة، بمصاحبة موسيقى هادئة جداً. كان علي مضاعفة الجهد، استدعاء المشاهد الجميلة والموسيقى، وما قبلهما طرد المحقق من مخيلتي وأعصابي.
- اللون الأسود للجدران أيقظ كل تفاصيل الفترة الماضية، صدى الأصوات من خلف الأشجار، ادعاء الصوت بأنه وكيل الله، سمير وتقلباته، معصومة التي لم تحظ بأي نصيب من اسمها، المرأة صاحبة الكلب، المرأة السحاقية في الدور السابع، جثة “أوفيسر” في ثلاجة الموتى، سكان البناية وهم يراقبون مرافقتي للشرطة.
- دخل شرطي إلى غرفة التحقيق بعد تأديته للتحية العسكرية، التقط الورقة من يد المحقق وغادر بالطريقة التي حضر فيها، وأغلق الباب.
- ماء..قال المحقق وهو يقلّب ورقتين أمامه: استلمت تقرير الطبيب الشرعي قبل لحظات، يقول إنه وجد نوعاً من المخدّر في دم “أوفيسر”، لكنه ليس من النوع الذي يستخدمه الأطباء.تجاوز تعليقي وقال: (لم نعثر على المسعودي في بيته، ثم أن سجلات مالك البناية تخلو من هذا الاسم، يبدو أن لقبه هو المسعودي. أما معصومة.. فقد بحثنا في كل السجلات الرسمية ولم نعثر لها على أي اسم، ترى، ما كانت ديانة “أوفيسر”؟
- قلت: (أنا لا أجري عمليات جراحية للحيوانات، عيادتي ليست مؤهلة لذلك، ولم أستخدم المخدر مع أي حيوان طيلة ممارستي لمهنتي..).
- قلتها كما لو أنني خروف.
- أعتقد أنه بوذي..
- ولماذا الاعتقاد؟
- لم أره يوماً ذاهباً إلى المسجد للصلاة…
- نحن في حاجة إلى المزيد من التقصي والبحث، ستبقى لدينا بعض الوقت، ولكن ليس في تلك الغرفة السوداء، ستكون في غرفة عادية. (8)لو كان المسعودي في شقته لذهبت إليه وطلبت تفسيراً، ما أعلمه أنني تمدّدت على السرير بملابسي وحذائي، فاعتقلني سلطان النوم بسرعة المخدّر، واستيقظت كمن يصحو من عملية جراحية، لم أكن أعاني آلاما في أي جزء من جسدي، ولا من أي صداع. شكوت من فراغ شاسع في جمجمتي، بدأت أحشوه باستعادة ما جرى. صعدت إلى السطح، كان بيت “أوفيسر” مضاءً، وأصوات همهمات وأنّات تتسرب من تحت باب غرفته، وترشح من جدرانه، وسمعت بعدها ضحكة نسائية مكبوتة، سكتت الأصوات كلها حين طرقت الباب بهدوء، لم يفتح أحد. عدت إلى شقتي بهدوء المنوّم، حضّرت فنجان قهوة ووقفت أمام النافذة، كانت الشوارع فارغة من السيارات والقطط والكلاب ورجال الأمن والجرذان الجائعة ونساء الليل. عدت وجلست على الأريكة، أشعلت سيجارة وأضأت التلفاز، وما كدت أضع جهاز التحكم على الطاولة الصغيرة حتى سمعت طرقاً خفيفاً على استحياء على الباب، نهضت بسرعة المرتاب، لصقت عيني بعين الباب السحرية وفتحت:
- استيقظت، كان ضوء غرفة نومي مشتعلا، نظرت من النافذة، كان الليل يحوم كفكرة سوداء، نظرت إلى ساعتي، كانت تشير إلى انتصاف الليل، نفضت رأسي لأستيقظ، تذكرت أنني عدت من الهمنغواي بعد منتصف الليل، في الساعة الثانية تقريبا، ورميت جسدي على السرير، وشاهدت ما شاهدت، هل يُعقل أنني نمت أكثر من عشرين ساعة متواصلة!
- بعد يومين أفرج المحقق عني مع جملة غامضة قالها وهو ينظر إلى عينيّ بمكر ودهاء: (احترس أكثر..).
- أظنك قد أتيت لزيارتي، أعتذر، لم تكن الظروف تسمح لاستقبال أحد. زارتني امرأة جائعة فأحسنت إليها ..
- قال “أوفيسر” تلك الجمل الخجولة المرتبكة وهو مطأطأ الرأس..
- ألم تمت يا ملعون؟
- لا يا دكتور كيف أموت، كنت أعيش في الجنة.. ولكن أين كنت أنتَ طوال النهار، لم ألحظك تخرج للعمل صباحاً أو تعود منه بعد الظهر؟ رغم أنني كنت أقف بباب البناية منذ السابعة صباحاً، حتى صديقك المسعودي غادر باكراً صباح أمس، ولم يجلس في شرفته كعادته لمراقبة الناس.
- لا أدري يا “أوفيسر”، أراك غداً..
- هبّت الصور والمشاهد في رأسي الثقيل، عدت إلى التلفاز فأطفأته، وإلى القهوة فاحتسيتها دفعة واحدة، وإلى السيجارة فحرقت كل ما تبقّى من تبغها بنفس واحد، بدّلت ملابسي كالمسحور، ونمت بسرعة غريبة، وأنا الذي أشكو من القلق وعدم النوم بشكل متواصل، كالحيوانات تماما..