رواية الكبش،، الفصل الثاني، وكيل الله،، تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش

وكيل الله

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

وكيل الله

(1)

 كانت رائحة مطعم ونادي الهمنغواي الليلي تشبه رائحة العربدة؛ عرق وكحول، ونوايا إناث ماكرة، وعيون جائعة وأفواه ذكور لاهثة ورائحة طعام مشبع بالبهارات الغامضة. كانت نظرات الجالسين والراقصين والمتكئين على الجدران تخترق الظنون والأجساد وتمعن في تخيّل التفاصيل المخبأة خلف ما تبقّى من ملابس النساء. اعتلت المسرح فرقة قادمة من جنوب أفريقيا مكونة من مغنيتين. كانتا مجبولتين بالحيرة والحذر رغم زعمهما الذوبان في الكلمات والألحان، واحدة شقراء طويلة كزرافة، ترتدي سروالا قصيراً وبلوزة تكشف عن صرة مزينة بحلقة حمراء، وواحدة سمراء قصيرة ترتدي ثوباً أبيض مشقوقاً من ركبتيها حتى منتصف فخذيها ليكشف عن حرير أسمر، كان يتوسطهما شاب رشيق أنيق تتلوى كل أطرافه بحركات شهوانية متعمداً إغواء النساء الصغيرات والمسنات وما بينهن..

لا مراهقين ولا مراهقات في الهمنغواي، كانت معظم أعمار المرتادين تتراوح بين الثلاثين والستين، يحتسون النبيذ والجعة والويسكي والعرق باحتراف. كانت المغنية السمراء تشعل الصالة كلما حانت وصلتها، فتطلق صوتها المنسجم مع تمايل جسمها الصغير المثير، فيرفع الذكور أعناقهم كالذئاب، ويوجهون كاميرات هواتفهم المتحركة وهم يتمايلون، بينما شفاههم تقبض على بقايا سجائر. كانت الإناث تنظر إلى المغني الأسمر بشهوانية مفضوحة، خاصة عندما يثبت الميكروفون على الحامل ويطلق العنان لجسده فيحرك وسطه إلى الأمام والخلف شادا على شفته السفلى رافعاً ذراعيه مدعياً الانتشاء، وكانت النساء تخفي ما ينز منهن فيسحبن دخان السجائر بجوع دفين ويحبسنه في صدورهن حتى يكاد يخرج من حلماتهن، أو تحتسي بعضهن ما تبقى في كأس النبيذ أو المارغاريتا دفعة واحدة، فيسيل العرق أكثر بين أثدائهن وعلى جباههن، فيمتلىء المكان برائحة شهوة نساء أو بقايا الجماع.

أمر واحد كان يحزنني؛ إهمال الذكور لتلك المغنية الشقراء، كانوا يعبرون عن مللهم وضجرهم من فقرتها الغنائية رغم صوتها القوي المصحوب بموسيقى الجاز، حاولت لفت انتباهها ونجحت، فوجّهت كل تركيزها إلى ناحيتي فأصاب الحضور الحسد، ما دفعني إلى الوقوف والتصفيق لها، ما زادها تألقا وطرباً وتمايلا، وكنت أحيانا أحييها فأرفع كأسي بهدوء النبلاء نحوها: بصحتك أيتها الشقراء.

(2)

كنت أفضل الذهاب إلى الهمنغواي وحيداً، النساء مزعجات مضجرات في عتمة النوادي الليلية. اصطحبت امرأة ذات ليلة تحت إلحاح شديد، وفاجأتني بأنها بذلت جهداً استثنائيا لإثارة غيرتي، حتى فكرتُ أن أتركها والذهاب إلى امرأة أخرى لإثارة غيرتها وأقتلها بالضربة القاضية، أو أسكب على رأسها برميل جعة وفوقه قليلا من البطاطا المقرمشة الحارة المليئة بزيت القلي، لكنني فضلت مغادرة الصالة بسلام، وأقسمت بكل أنواع الشمبانيا ألا أصطحب أنثى إلى صالة أنس.

كانت تلك الوحدة تجعلني ادفع الثمن مضاعفا؛ أطلب كأسيّ نبيذ وصحن مكسرات وصحن خضار، وانشغل في مراقبة الكائنات وأشباه السكارى وأعضاء فرقة الجاز، وفي ارتشاف النبيذ وتدخين السجائر، وأحيانا، كان ينهض صعلوك في داخلي يدعي كتابة الشعر فافتح له صفحة في دفتر صغير احتفظ به في جيب سروالي الخلفية، وأحرره ليبدأ في كتابة ما ليس له علاقة بموسيقى الجاز ورائحة العربدة والإضاءة المريبة؛ يكتب عن حارس البناية الغامض الذي يدعي البؤس، عن تأملات رصيف محشو باللاجئين، عن امرأة تطعم قطة عند الفجر، عن عاهرة تقرأ في كتاب الجودة والتميز، أو يكتب عن سياسي يرقص التانغو مع ظله، أو يكتب أشعاراً يرتلها في بيوت العزاء أو في الاحتفالات الدينية، ولا يكتب هذا الشاعر في السياسة، فقد أصدر فتوى قبل خمس سنوات بأنها من الفواحش والكبائر، والسياسيون أخوة الشياطين لأنهم مبذرون وأغبياء، ولدهشة وحيه آمن بالفتوى كثيرون، منهم رجال دين وجزارون وعاملو نظافة ومهندسون وأطباء وطبيبات أسنان وتجميل، وأكثر من آمن بها هم السياسيون ولاعبو السيرك!

(3) جاءت امرأة عامرة الصدر مكتنزة الشفتين، لها عينان متوحشتان وشعر قصير جداً، وجلست إلى طاولتي في المكان المحجوز للا أحد، سمحت لنفسها بثقة العاهرات بارتشاف النبيذ من الكأس الآخر:

– ارقبكَ منذ ساعة وأيقنت أنك وحيد مع الجاز، فقلت إن صحبة امرأة كاملة الدسم مثلي ستكون أشهى وألذ!

قلت وعيناي تتابعان المغنية الشقراء الطويلة: خانك يقينك ..

قبل أن تنسحب قالت: أنا معصومة.. ويلقبونني بالكبش أيضا.

أخطأت حين تفاعلت معها وقلت: معصومة عن ماذا أيتها الكبش التائه؟

قالت: أعجبني هذا الوصف، معصومة عن السكر ومعاشرة التيوس أمثالك!

غادَرَتْ حين أهملتُ حضورها معتنيا بمغنّيتي الشقراء.

بعد رشفتين من كأس النبيذ وسحب أنفاس ثقيلة من سيجارة الليل، حضر شاب في آخر العشرينات من عمره، جلس وارتشف من الكأس الذي ارتشفت منه معصومة، وحدّثني بصوت مرتجف خافت: صَرْفُك لتلك البقرة قرار صائب، يبدو أنك مبدع! تعشق الدهشة وغير المألوف، وتحب معاقرة الملفوف!

(ملفوف؟!).. أطلقت ضحكة هستيرية متواصلة حتى استدارت رقاب الحاضرين ورجّت اثداء الحاضرات. كنت أضحك وأصوّب شاهدي نحوه حتى جاء عبد المحسن حارس الهمنغواي وطلب منه مغادرة الطاولة بهدوء.

حين عاد الشاب إلى طاولته واستراح ونسي الساهرون ما حدث، توجهت نحوه وربتّ على كتفه وقلت له باللغة الإنجليزية: أرجو أن تقبل اعتذاري، لم أكن اقلّل من شأنك، ولم أضحك عليك وإنما لوصفك تلك المرأة بالبقرة، وذلك الشيء العفن بالملفوف، كيف أتتك هذه التشابيه، أنت شاب مبتكر..

نظر إلى وجهي بعينين دامعتين فعانقته، وهمس لي أثناء ذلك: هل أستطيع الانضمام إليك لخمس دقائق فقط لإعادة اعتباري..

وافقت، وعدت إلى طاولتي، لكنه لم يأت ..

تجاوزت الساعة منتصف الليل..حضرت النادلة ومعها فاتورة الحساب وكأس ماء بالليمون، احتسيته دفعة واحدة ودفعت فاتورة الشاب أيضا وغادرت. وقبل خروجي من باب الهمنغواي سمعت الصوت المرتجف: (لو سمحت. أحب أن اعطيك بطاقتي..).

أخذتها وانا أتأمل  وجهه الخجول: (شكرا..)

قال بارتباك غير مبرّر :اسمي سمير

ابتسمت وصافحته وتمنيت له سهرة سعيدة وغادرت. استطاع ذاك الشاب أن يزرع بي الشعور بالذنب، وبالإشفاق عليه والتعاطف معه.

توجّهت بخطى ثابتة نحو سيارتي، فتحت باب السائق، وقبل دخولي انطلق صوت من وراء شجرة خلفي متبوعاً بصدى: (شكراً لأنك صرفت المرأة البقرة ولم تستسلم لاغوائها..)

لم يمهلني الصدى وقتا لاتبيّن صاحب الصوت حتى فاجأني صوتٌ ثانٍ مشابه حد التطابق للصوت الأول من خلف شجرة أمامي: (وشكراً لأنك لم تتعاطف مع الشاب كثيراً، فقد غادر الصالة وجنّبك الإحراج..).

توالت الأصوات الشبيهة، فانطلق صوت من جهة اليمين يكمن خلف شجرة ثالثة: (شكرا لأنك لم تترك النبيذ يذهب بعقلك، ولكن لا تقرب الصلاة حين تعود إلى بيتك وحيدا..).

ثم انطلق الصوت ذاته من خلف شجرة على الجهة اليسرى متبوعاً بالصدى: (شكراً لأنك لم تشارك في الرقص مع النساء. وعليك اللعنة لأنك استسلمت لإغواء الفتاة الشقراء..).

قلت بعد استتباب الصمت: (من أنت، ولماذا كل هذه الحركات المسرحية التافهة؟ اظهر لنتحاور حول ما قلت..).

جاءني الصوت من الجهات كلها: (لا تتسرع فتخطىء، فإن أخطأت اتخذنا في حقك إجراءً وتكون من الخاسرين. ..).

  • ولماذا تختبىء خلف كل هذه الأشجار؟

  • لأنني في كل مكان !

  • هل كنت في الهمنغواي؟

  • أنا في كل مكان. .

  • يقولون إن الله وحده فقط في كل مكان؟

  • أنا وكيل الله. .

ضحك ضحكة تجمع بين الحياة والموت..

دخلت سيارتي وأشعلت المحرك. كنت أشعر بالسخونة تملأ شرايين أطرافي، وبالغضب ينفخ في أوردة عينيّ، تساءلت عن هذا الكائن الذي قام بتثبيت أجهزة صوت خلف الشجيرات الأربع ليمتدح سلوكي في المنغواي ويلعن انجذابي للشقراء، وقبل الاستسلام لعفاريت المكان قررت الانطلاق بسيارتي والذهاب بعيداً عن المربع الأخضر، لكن صوتا انطلق من المقعد الخلفي للسيارة يكاد أن يتطابق مع أصوات الجهات الأربع: (لا تنظر خلفك ولا تحملق في المرآة محاولاً رؤيتي، لأنك لن تتعرف إلي لو رأيتني، وإن تعرفت إليّ بحاسّتك وقدرات أنفك ستحدث مجزرة، فلا تلتفت..).

تمالكت نفسي وأعدت ترتيب خفقات قلبي مدّعياً الهدوء، بعد أن شعرت أن الكامن في المقعد الخلفي يحاول تغيير نغمة صوته: (حسناً ماذا تريد؟)..

– أنت الذي تريد، رفضتَ السيدة معصومة والشاب سمير ولم تثقل في تناول الخمرة كالآخرين ولم تشارك الناس الرقص، هذا يعني أنك تبحث عن شيء آخر أكثر متعة من جميع النساء والغلمان الدنيويين القاطنين في الهمنغواي، وتتطلع إلى رقص أكثر نشوةً وخمرةٍ أكثر سحراً، شيء خالد ودائم لا ينقطع.

– أسمح لي أن أقول لك لا شأن لك في كل ذلك، وإنك فهمتني على وجه آخر، كل ما في الأمر أنني لم أعجب بتلك المرأة التي تدعي أنك تعرفها، وحزنت على ذاك الشاب الذي يبدو أنك تعرفه، ولم يعجبني طعم النبيذ هذه الليلة، عادوا إلى مزجه بالماء جشعاً وطمعاً.

– وهذا يؤكد فهمي الصحيح، أنت تبحث عما هو أجمل وأشهى وأمتع، تبقى لذته معك حتى بعد موتك، وهذا الشيء لدي.

– هل قمت بكل هذه المسرحية حتى تعرض عليّ متعةً أخرى، نساءً أجمل وغلماناً أشهى وخمرة أطيب..؟ شكرا لك على كل حال، أنا لا أتعامل مع العاهرات من أي نوع، ولا أحب مواقعة من يشبهني لأنني سأشعر بمضاجعة نفسي، أما الخمرة فهناك أنواع لذيذة حقا وسأكون شاكرا لك لو اقترحت اسما على ألا يكون ثقيلا ولا تزيد نسبة الكحول فيه عن عشرين بالمائة، تفضل واكشف عن نفسك لأنني لن أشي بك. ….

ساد الصمت الثقيل، بدأت اتصبّب عرقا، مددت يدي نحو علبة المحارم الورقية متعمداً استراق نظرة نحو الكامن خلف ظهري،  فلم ألحظ أحدا، قلت: هل أستدير؟

التفت بعصبية حين لم أسمع الرد فلم أجد أحدا، فغادرت السيارة وتفحصت الشجيرات من الجهات الأربع دون جدوى، تذكرت الشاب سمير وتولدت لدي رغبة للاتصال به لكنني قمعت ذاتي.

(4)

غادرت المكان وفي نيّتي زيارة المسعودي، لعلمي أنه يقظ، فعمله كما يدّعي يبدأ بعد منتصف الليل؛ يجمع الأحلام عن شجر النائمين ويفسرها في عصر اليوم التالي، وله وجهة نظر في طقوسه، فهو يعتقد أن الأحلام تكون هائمة في الليل ولا تستقر إلا بعد أن يتشبع النهار بالضوء، فإذا تذكر النائم حلمه يكون صحيحاً، وإن أخفق عليه الخلود إلى النوم عصراً بعد وجبة غداء دسمة ليصاب بكابوس!

كان من الصعب مناقشة المسعودي في تحليلاته واستنتاجاته، مثلما عجز أبوه في مناقشته عندما قرر تغيير اختصاصه الجامعي وانتقل من دراسة علم السياسة والاقتصاد إلى تفسير الأحلام. أخبرني أنه بذل جهداً للعثور على جامعة تمنح البكالوريوس في هذا التخصص، ولم يعجبه الشرط حين أُعلم بضرورة دراسة علم النفس أولا ليتخصّص بعد ذلك في دراسة تفسير الأحلام. في النهاية وجد نفسه يحمل بكالوريوس في علم النفس، ويتردّد على امرأة غجرية مكث في مضاربها قرابة العام ليتخصص في تفسير الأحلام. قال إنه غادرها لأن هواها وقع في نفسه، وشك أنها كانت تدس السحر في فنجان القهوة الصباحي، وتطهو الطعام ببولها.

كانت لدى المسعودي وجهة نظر مليئة بالمكر، كان يرى أن الناس جميعا يحاولون تفسير مواقف السياسيين بالاحتمالات والفرضيات، أما هو، فينشده السياسيون لتفسير أحلامهم، ويتعرف خلال دقائق على مواقفهم الحقيقية أو جزء كبير منها، ولهذا ذهبت إليه ليخبرني عن الأحلام التي ستأتيني بعد الحوادث التي تعرضت لها! وتفسيره للأصوات الأربعة التي كادت أن تودي بعقلي فقال:

  • أولا أريد أن أستفهم منك وأرجو أن تكون صادقاً معي؛ هل أثقلت في احتساء النبيذ؟ لا تجبني، إن كنت قد فعلت فقد يكون ما حدث معك مجرد تهيؤات أو أمنيات، تريد امرأةً أجمل مما رأيت، وغلاماً أرق ممن حضر إليك، ونبيذاً أصفى وأكثر أصالة مما احتسيت. كثيرون يقولون إن الخمرة لا تلعب بعقولهم، ولكن اعلم يا صديقي، إن عدم التمايل في المشي، وعدم التفوّه بكلمات داعرة لا يعني أن الخمرة كانت بريئة من خيالاتك، ورفضك للشهوة وتأجيلك للرغبة ليست علامات يُحتكم إليها لإثبات أن الخمرة لم تأخذك إلى احمرار آفاقها، فمن الأرجح أن ما حدث معك ابتداء من المرأة المكتنزة والشاب الرقيق، ثم الأصوات الأربع ما هي إلا تهيؤات أو أمنيات كنت تطمح إلى حدوثها فعلا. أما في حالة أن يكون كل ما سردته لي قد وقع فعلا وأنت على يقين منه، فأنت أمام ثلاثة احتمالات؛ الأول أن هناك من بدأ يبتكر أساليب للقوادة، والثاني أن هناك من يريد استدراجك لفكر ما، والثالث أنك حظيت بكرامة لا تحدث إلا للناس الأتقياء البسطاء والأنقياء، وسأبدا معك من الاحتمال الثالث، احذفه من رأسك، انس يا صاحبي، فأنت لو أديت صلاتك في المسجد معتكفاً خاشعاً لمدة عشرين عاماً فإن نصف رؤيةٍ كريمة لن تمر في سحابات عقلك، فأنت مجبول بالعربدة الأنيقة والسخط العاطفي، والله وحده هو الذي نجّا المرأة والشاب منك، أنا مندهش يا رجل، أكاد أن لا أصدق كيف تمكنت من رفض تلك العروض، وأنت الذي لا توفر قطة إذا ماءت وتمسّحت بقدمك في الشارع. أما الاحتمال الأول فهو ملتبس قليلا عليّ، فالقوادة لا تحتاج إلى كل تلك الطقوس المسرحية، كأنك أمام لعبة الصوت والضوء، ثم أن القوادة لم تعد عملاً مخفياً يُمارس في السر، ويمكنك رؤية النساء العاهرات على نواصي الشوارع وفي مواقف السيارات وفي المطاعم والمقاهي والحانات ودور السينما، وأحيانا تراهن خارج دور العبادة والمدارس والجامعات، ثم دعنا نتحدث بشكل فج ومباشر، جميع سياسات الدول تغض الطرف عن الدعارة لتُبقى الرجال منشغلين بما بين أفخاذهم، والغاية أن تتحول رؤوسهم إلى ملاهٍ ليلية، لأنك بمجرد امتلاكك للحظة الوعي، ومراقبة ما يحدث في الخفاء، وهذا ليس صعباً، ستقوم بثورة حقيقية، ولهذا أسرّ لي أحد السياسيين أنه ربما تصدر تشريعات تقنّن أقدم مهنة في التاريخ، بذريعة احترام الحياة الشخصية، وتنظيم الرغبات، أو بالمتعة المشروعة، أو بتآلف القلوب، وتوحيد الأجساد، وما عليك سوى الانتظار.

قلت لصديقي بهدوء نابع من ثِقل رأسي إنه أخطأ الظن بي، ولا دلائل لديه على عربدتي، وإنه لم يكن يحلل ما حدث، بل كان يتحدث في السياسة والاجتماع وعلم النفس وانتشار الدعارة أكثر مما يصف حالتي، وأكدت له وأقسمت بمعصومة وسمير وحارس البناية ونادلة الهمنغواي أن ما سردته له كان حقيقة، ويمكنني إرشاده إليهم في الهمنغواي، فالمرأة تتردد بشكل شبه يومي على الهمنغواي، ولها ركنها الخاص، أما الشاب فحضوره متقطع ووفق مزاجه.

شعرت أن المسعودي كان غارقاً في تهويماته في تهويماته الخاصة. تفقّدت ساعتي وأكتشفت أنها تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، فتململت علامةً على استعدادي للمغادرة، لكنه وقف فجأة ووجه شاهده نحوي قائلا: (ألا ترغب في الاستماع إلى الاحتمال الثاني؛ أي أحدهم يريد استدراجك إلى فكرةٍ ما؟).

كان انفاصله للحظات بسبب تفكيره بالاحتمال الثاني، فاستأذنته لاقتحام مطبخه وتحضير فنجان قهوة يلملم شتات أفكاري فأجاز لي بابتسامة. غبت عنه ربع ساعة وعدت أحمل فنجانيّ قهوة على صينية قديمة كُتب في وسطها بزركشة بديعة: “هذا من فضل ربي”.

قلت للمسعودي: (البعض يكتب هذه الجملة على سور بيته الجديد، أو على الزجاج الخلفي لشاحنة جديدة كما يفعل السائقون، وتكتبها بعض النسوة والصبايا على صدورهن، أما أنت فتكتبها على صينية تقديم القهوة! أنت كتبتها أليس كذلك؟ أعلم أنك تجيد التلاعب بالحروف العربية، فأنت خطاط ماهر..).

قال ببرود: (تعني مخطط ماهر.. كل شيء من فضل ربي أيها الطبيب العربيد، وحضورك هذه الليلة لزيارتي من فضل ربي، والقهوة من فضل ربي، وعليك أن تعلم أن النبيذ الذي احتسيته هذا المساء من فضل ربك، والمرأة والشاب وفرقة الجاز في الهمنغواي من فضل ربك، والرجل الذي كان يجلس خلفك من فضل ربك، ومغادرتك لي كي أستريح ستكون من فضل ربي أيضاً..).

قلت وأنا أسترخي على الأريكة القديمة: لست بهذا السوء يا صديقي، أنسيتَ ما فعلتَ قبل أسبوع في بيتي؟)..

قال متناسيا ما فعله ومتجاهلا حديثي: (دعنا نتحدث في الاحتمال الثالث،الاستدراج إلى فكرة ما، لماذا تتهرب من هذا الاحتمال، أرجوك، ركّز معي وتذكّر حواركما، أعلم أنك قارئ جيد ولديك قدرة على قراءة القصدية في دس بعض المفردات، وتستطيع اكتشاف المعنى من نغمة الصوت وقوته أو خفوته، وعدم انتباهك لبعض المفردات يجعلني أرجّح أنك كنت منتشياً، فسمعتَ ما تريد وأهملت ما لا تريد، وتذكرت العبد الفقير إلى الله لتنهي سهرتك التي أردتها مدهشة ولتظهر لي بمظهر المغامر، ولكنني هذه المرة سآخذ كلامك على محمل الصدق، لأن ما تفوهت به خطير وجدير بالتحليل، مع أنه واضح كل الوضوح بالنسبة لي، وهذا ليس له علاقة بتفسير الأحلام، بل بعنكبوت ربما وضعك هدفاً له ليصطادك ثم يتسلى عليك كحشرة..).

استيقظت تماما، كأنني لم أقض ساعتين في الهمنغواي، ربما كان للقهوة وقعها الخاص، ربما أيقظتني صورة العنكبوت وهو يبني شبكته ويستدرج بعوضة ليلتهمها، وهي صورة طالما أرقت ليلي، ففيها من اللؤم والتوحش والإحساس بالذبح والتقطيع والذوبان ما لا أحتمل تصوره، رغم أن المشهد قد يبدو بسيطا لدى آخرين، وربما يستعينون به لإثبات المقدس من الحكايات.

أصغيت للمسعودي: (اسمع يا صديقي، ألم تنتبه إلى مفردات مثل؛ النساء، الغلمان الدنيويون.. شيء خالد ودائم.. شيء تبقى لذته معك بعد موتك..” على كل حال لن أفسّر لك أكثر، أريدك أن تبحث بنفسك، ولا تنس تعبيرًا آخر أيضا، تذكر بأنه قال لك بأنه وكيل الله.. ألم يلفت كلامه انتباهك، ألم يخدش دماغك، ألم يبهرك؟)..

قلت للمسعودي: (هذه المفردات لا تعنيني وليس لها دلالات لدي، ولكنني أعدك بالبحث عنها، أرجو أن تأذن لي، بدأت أشعر بالنعاس والتعب يا صديقي..).

استوقفني قبل أن أفتح باب شقته قائلا: (أرجوك..)

استدرت، كان المسعودي يرسم على وجهه علامات الصوفي الآخذ في الذوبان، قال: (دعك أيها الغزالي من خشونة مفرداتي في وصفي لك، أود تكثيف معنى ما حدث لك بجملة واحدة، أنا على يقين من أن الأصوات التي سمعتها هي علامة من السماء، وذاك الرجل الذي ادعى بأنه وكيل الله قد يكون ملاكا هبط ليوحي إليك بأمر ما، صحيح أنك تعربد أحياناً ولكن قلبك أبيض كالثلج الذي يغسل الذنوب، ومهامك المستقبلية قد تحتاج أن تكون داعراً ومؤمنا، رسولا وصاحب عصابة، المهام الكبرى تحتاج إلى رجال يجمعون الضدين. لا تجبني، اخرج الآن إلى بيتك..).

غادرته مبتسماً أهز رأسي المليء بمشاعر حزينة وفرحة، راضية غاضبة، حتى وصلت شقتي المليئة بملفات الحيوانات وأحلامهم!

(5)

كنا نقيم في البناية ذاتها، المسعودي يقيم في الدور الأول، وأنا أقيم في الدور العاشر. كنت أعلم وجوده في البيت من المصباح الأصفر الذي يشعله حين يبدأ عمله، يجمع الأحلام من غرف نوم الطوابق العشرة!

سألته مرة: (كيف تجمع الأحلام يا صديقي؟).

أجاب: (هذا فوق مستوى إدراكك أيها الطبيب، مع احترامي لك، أنتم معشر الأطباء تؤمنون بالمنطق والبراهين ونتائج التجارب، حتى أنكم ترفضون الاعتراف بطب الأعشاب، بينما أنا أحاول تقشير البشر، أنا أتحدث مجازاً حتى لا تناقشني وتحاسبني على كل كلمة. أنا أحاول قراءة ما تخبؤه النظرات والتجاعيد والإيماءات والحركات والأنفاس، أعرف الرجل المهموم من مدى قوة خطوته وحدّة التفاتته ولون عينيه وحركات كفّيه واهتزاز صوته ومفردات لغته، وأعرف المرأة السعيدة من ابتسامتها وجبينها وتصفيف شعرها وألوان ملابسها وانتشائها بأنوثتها، حتى لو كانت ترتدي الجلباب والبرقع. ولتعلم أيها الغزالي أن أحلام الناس ليست في تجاويف أدمغتهم، إنها في المدى الذي يندفعون نحوه، هذا المدى الذي تحسبونه أنتم الأطباء فارغاً، تملؤه الأحلام والتوقعات والخطط والأطماع والمؤامرات والجرائم المحتملة والانتصارات المنتظرة. وبصفتي أسكن في الدور الأول، وألملم رزقي من تفسير أحلام الناس، فإنني أستيقظ صباحاً كما لو أنني ذاهب إلى وظيفة، ومكتبي شرفتي، وجهاز الحاسوب الخاص بي هو كل شيء تطل عليه شرفتي. ففي الصباح يخرج الناس إلى أعمالهم، فأرقبهم، ولا بأس أن أعطيك بعض أسرار مهنتي، إذا أردتَ قراءة إنسان أو حيوان، رجل أو امرأة، راقبه من الخلف، سترى هندامه، وتصفيفة شعره، وخطوته، ومستوى انحناءة ظهره، وسقوط مفاتيح السيارة من يده أكثر من مرة، وحين يهم بالتقاطها قد يسقط هاتفه النقال أيضا، وحين ينحني قد تخرج من جيب قميصه بعض الأوراق. وراقب المرأة من ظهرها أيضا، ستكون إما سريعة الخطو أو بطيئة، قد تفتش في حقيبتها وهي متجهة إلى سيارتها، وقد تخبط الأرض بحذائها حين تكتشف أنها نسيت مفتاح سيارتها في البيت، وقد تعبر الشارع دون الالتفات إلى اليمين أو اليسار، فتفاجئها سيارة، وقد تسقط أرضا، وقد تهرول، وقد توجه للسائق شتيمة قذرة، وأنا ساسمعها لأنني في الأعلى. فحين تكون في الأعلى تسمع تمتمات الناس، ألا تسمع حوارات شخصين بعد منتصف الليل وأنت في الطابق العاشر؟ هذه يا صديقي أمثلة بسيطة جدا، ومشاهد قليلة مما أرقبه في الصباح، حيث ينتهي دوامي عند الساعة التاسعة والنصف أو العاشرة على أكثر تقدير. في ذلك الوقت، قد سيخرج رجل بخطوات سريعة، بشعر أشعث، وستخرج امرأة تلملم نفسها كأنها وضعت كل ما في الخزانة من ثياب على جسدها. أما جلسة المراقبة الثانية فتبدأ عند الساعة الثانية والنصف، أرى الواجهة الأمامية للجيران؛ وجوه صفراء من التعب، عيون محمرة من البحلقة في أجهزة الحاسوب؛ يخرج رجل من سيارته وهو ينظف هاتفه النقال من المكالمات والحوارات غير المرغوبة التي غالبا ما تكون مع نساء، أو مع رجال تطال موضوعات جنسية، وتخرج امرأة من سيارتها وهي تشد تنورتها للأسفل، أو ترفع بنطالها وترتب أزرار قميصها العلوية، المرأة تنظف هاتفها قبل خروجها من المكتب خلافا للرجل الغبي، الذي قد تراقبه زوجته من الشرفة حين تكون قد وصلت قبله، أو حين تكون ربة بيت. ربات البيوت يا صديقي ذكيات وماهرات في فهم ما يخبؤه الرجال أكثر من النساء العاملات. ثم دعني أخبرك يا صديقي، ماذا سيحلم الناس وهم يعيشون كل هذا الضجر والضبابية في المواقف الكبرى، وبالتحديد مواقف السياسيين وهم يتحدثون عن قضايا مصيرية كأنهم يتحدثون عن راقصة في ملهى! وماذا سيحلم الناس وهم يشاهدون الأخبار الحبلى بالموت والدمار والذبح والقتل والموت والرصاص والبيوت المدمّرة التي أفنوا أعمارهم في بنائها؟ لا توجد أحلام يا صديقي، هناك كوابيس، وأنا سيّد في اختراع الكوابيس وتفسيرها. هل فهمت شيئاً..؟).

تلك وظيفة المخبرين، لهذا لم أقتنع بما تفلسف به واستعرضه بحنكة العارف، شككت بكل كلمة قالها باستثناء وصفه لواقع الناس والأخبار والوضع العام المزري، ولهذا كنت أغيظه متعمّدا وأقول بلا مبالاة: (طبعاً فهمت، وأنت لم تخترع سوى الماء الساخن، كل ما ذكرته عادي جداً..)

أضفت إلى كلامي بينما كنت أجلس في وضع المتفلسف: (قد يشاهد الرجل نشرة أخبار مليئة بالدم، ويحلم بعد منتصف الليل أنه يحتضن حبيبته وسط حقل مطرز بالخزامى، وقد تذهب المرأة إلى سريرها بعد ليلة ساخنة مع زوجها وتحلم أنها تخنق زميلتها في العمل! ألا يحدث هذا؟)..

وكان يجيب بسرعة الإنسان الضجر: (يحدث، طبعا يحدث، لأن الإنسان يبحث عن معادل موضوعي للحزن والدم، والإنسانة، وأعني المرأة، كيدها ككيد إبليس، وقد لا تنتظر الانتهاء من حفلة عاطفية مجنونة مع زوجها حتى تتخيل نفسها في مكان زوجها، وتستبدل ذاتها بامرأة أخرى أوحت لها أن ألوان التجميل التي تستخدمها غير متناسقة..).

هذا نموذج من حواراتي مع المسعودي، ولكسر الرتابة والجمود، ولإحداث بعض التجديد دعوته مرةً إلى الهمنغواي، فوافق، كان ذلك منذ ستة اشهر.

لم أكن أتوقع موافقته بسرعة، فهو يؤدي الصلوات في مواقيتها، ويصوم شهر رمضان بأكمله، ويعتزل في الأيام التي يستيقظ فيها مبتلاً دبقاً بعد انفجار شهوته على ملابسه الداخلية، ويذهب للتكبير صبيحة يوم العيد، وغالبا ما أتشاجر معه عند عودته. انتظرته في أحد الأعياد أمام البناية ووجهي يفيض حنقاً، وبادرته فور وصوله: (أعلم أنك تغيظني، أنت تتعمد رفع صوتك إلى أقصى مداه وأنت تكبر، أعلم أنني كنت أمر في ذهنك، وتشعر بالفرح لعلمك أنني أتقلب وأضرب رأسي بالمخدة، وأنتظر لحظة انتهاء التكبير حتى أنام..).

كان يضحك ويعانقني ويتمنى لي عيداً سعيدا، ويدعوني لاحتساء قهوة الصباح، ويتعجّب من قدرتي على تمييز صوته. لكنني كنت أفقس خيلاءه قبل مغادرتي لبيته فأقول له: (هل صدقت أنني أميّز صوتك أيها المعتوه، كان صوت الإمام الذي يكبّر كأنه يمتطي فرساً وينطلق في معركة..).

ذلك اليوم، اشترط صديقي أن نذهب بعد صلاة العشاء إلى الهمنغواي، فوافقت وقلت: (يبدو أنك تريد أن تلملم أحلام السكارى والراقصين وثلاثي موسيقى الجاز! على فكرة، هنالك كبشان، واحد أسمر وآخر أشقر، لهما مؤخرتان يسيل لهما لعاب الأتقياء..).

أجاب بلا مبالاة: (لا تهمني النساء ذوات المؤخرات المستديرة، أنا ذاهب لأرى المرأة التي انضمت إلى طاولتك، والشاب الذي تضامنت معه، وأرجو أن يحضرا، كما أتمنى سماع الأصوات القادمة من الجهات الأربع..).

 

 

اترك تعليقاً