كوبرنيكوس.. رمز الثورات المعرفية في التاريخ
كان ثوريًا من الطراز الأول إذ غير نظرتنا للكون والعالم
باريس: هاشم صالح/ الشرق الأوسط
من هو هذا الشخص الذي تحول اسمه إلى رمز لكل الثورات المعرفية في التاريخ؟ فعندما يظهر كتاب جديد يحمل في طياته اكتشافا غير مسبوق، نقول بأن صاحبه قام بثورة كوبرنيكية. هذا ما قالوه عن كانط بعد صدور كتابه الشهير: «نقد العقل الخالص». وهذا ما قاله الباحثون المختصون في الدراسات العربية الإسلامية عندما ظهر كتاب المستشرق الألماني نولدكه عن تاريخ القرآن الكريم عام 1860. فقد صرخوا قائلين ومتفاجئين: هذا الكتاب يحدث ثورة كوبرنيكية في الدراسات القرآنية. بمعنى أنه قلب المنظور السائد رأسا على عقب، وجاء بما عجز عنه كل الباحثين السابقين.. ألم يقل أبو العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل؟
وبالتالي، فأي قلب للمنظور الراسخ السائد في أي مجال من المجالات المعرفية يدعى: ثورة كوبرنيكية. بهذا المعنى، فكل الفلاسفة والعلماء الكبار في العصور الحديثة قاموا بثورات كوبرنيكية.
ولد نيكولا كوبرنيكوس يوم التاسع عشر من شهر فبراير (شباط) عام 1473 في مدينة بولونية تدعى تورون، ومات عام 1543 في مدينة أخرى تدعى فرومبورك. وهذا يعني أنه عاش سبعين سنة، وهو عمر طويل بالنسبة لذلك الزمان. وكانت ولادته في عائلة من التجار والموظفين. ولكن والده مات مبكرا عام 1483، أي عندما كان عمره عشرة أعوام فقط، فتبناه خاله مطران مدينة كراكوفيا وسهر على صحته وتعليمه. وقد حرص على إدخاله إلى أفضل المدارس والجامعات. وفي عام 1491م دخل إلى جامعة كراكوفيا، حيث درس الصناعات والحرف، ولكن من دون أن ينال أي شهادة.
وقبل أن يترك مدينة تورون عينه خاله كاهنا قانونيا في مدينة فرومبورك، حيث أشرف على الشؤون المالية للكنيسة، ولكن دون أي مسؤولية دينية. ثم سافر بعد ذالك إلى إيطاليا، حيث درس القانون الشرعي المسيحي والطب في جامعة بولونيا الإيطالية. كما درس بعد ذلك علم الفلك على يد عالم كبير يدعى دومينيكو ماريا نوفارا. وكان أول عالم يطرح الشكوك حول نظرية بطليموس السائدة منذ مئات السنين والقائلة بأن الشمس تدور حول الأرض وأن الأرض هي مركز الكون. ومنذ البداية، راح كوبرنيكوس يهتم بعلم الجغرافيا والفلك اهتماما خاصا متزايدا. وقد شجعه أستاذه على تعميق معارفه في هذا الميدان. وقد راحا – كلاهما – يقومان بتجارب علمية كثيرة عن طريق مراقبة السماء، ككسوف القمر مثلا وسوى ذلك.
وبعدئذ أصبح كوبرنيكوس أستاذا للرياضيات ومحاضرا في علم الفلك في روما عام 1500، قبل أن يعود في السنة التالية إلى فرونبورغ، ثم عاد بعد ذاك إلى إيطاليا لإكمال دراساته في علم القانون والطب في جامعة بادوا، وهي الجامعة التي درّس فيها غاليليو علم الفيزياء والفلك بعد مائة سنة من ذلك التاريخ.
وبعد أن أكمل دراساته، أنشأ مركزا لمراقبة النجوم في مدينة فرونبورغ، وانخرط في بحوثه وتجاربه العلمية لسنوات طويلة. وكان كوبرنيكوس يجيد اللاتينية تماما. وهي لغة العلم والفكر في ذلك الزمان. وقد نشر أول كتاب له بها عن الأخلاق. ولكن كتابه هذا لم ينشر إلا بعد ثلاثة أو أربعة قرون؛ أي في القرن التاسع عشر.
وفي هذا الكتاب استعرض أفكاره الأساسية عن علم الفلك، وقال بأن الشمس هي مركز الكون، وليس الأرض. وقد أذهلت هذه الفكرة كل علماء عصره، ولم يصدقوها في البداية.
ولكن كوبرنيكوس لم ينجز كتابه الكبير عن ثورات الأفلاك السماوية إلا عام 1530. ولم ينشره إلا يوم 24 مايو (أيار) عام 1543، أي وهو على فراش الاحتضار. وقد فعل ذلك عن قصد لكي لا تصيبه الكنيسة بأذى أو تلاحقه. فماذا يمكن أن تفعل به وهو يموت؟ فقد كان يعرف أنه يزعزع الأفكار السائدة في عصره عن بنية الكون بسمائه وأرضه. ومعلوم أن الكنيسة المسيحية كانت قد تبنت منذ قرون طويلة نظرية بطليموس وأرسطو عن تركيبة الكون، وهي النظرية التي تقول بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس تدور حولها كما هو ظاهر للعين المجردة. وخلعت الكنيسة على هذا الاعتقاد طابع القداسة الدينية المطلقة التي لا يجوز لأحد أن يمسها، واعتبرت أن كل من يشكك فيها كافر أو ملحد. وبالتالي، فجزاؤه محاكم التفتيش القاضية بالقتل والموت حرقا هو وكتبه. لهذا السبب كان كوبرنيكوس حذرا جدا، فلم ينشر كتابه الكبير إلا في يوم موته، أو قل إنه أوصى الناشر بأن يتأخر في نشره حتى مرض وشعر باقتراب الأجل، فصادف أن تم نشره في يوم الاحتضار بالذات. وهكذا أدى هذا العالم الجليل رسالته ثم أغمض عينيه ومضى.
ومعلوم أن فلسفة أرسطو كانت تحظى بالمعصومية الدينية في العالم المسيحي بعد أن تبناها القديس توما الأكويني وصالح بينها وبين العقيدة المسيحية. وكانت نظرية أرسطو تقول ما يلي: الأرض هي مركز الكون، وكل الأفلاك والنجوم الأخرى تدور حولها كالقمر وعطارد، والزهرة، والشمس، وكل شيء. وبالتالي فهذه العقيدة التي سيطرت على عقلية الناس طيلة ألفي سنة لم يكن من السهل على أحد أن يضعها موضع الشك أو ينقضها. كان ذلك بمثابة العدوان على عقائد البشر وإيمانهم ومقدساتهم. ولهذا السبب تعرض غاليليو للمحاكمة حتى بعد مائة سنة من موت سلفه العظيم كوبرنيكوس. ولم ينج برأسه إلا بعد أن تراجع عن النظرية الجديدة.
والواقع أن محاكم التفتيش لم تكن تمزح آنذاك فيما يخص الشؤون العقائدية؛ فأي انحراف عن مبادئ الكنيسة وأفكارها كان يعتبر خروجا عن الدين. ولذلك خاف ديكارت بعد أن سمع بمحاكمة غاليليو وأجل لبعض الوقت نشر كتابه الشهير: «مقال في المنهج»، وهو كتاب يؤيد نظرية كوبرنيكوس عن أصل الكون وتركيبته ودوران الأرض حول الشمس وليس العكس. ولم ينشره إلا لاحقا دون ذكر اسم المؤلف. وهكذا تحاشى الملاحقة الكنسية له. هكذا نلاحظ أن فلاسفة أوروبا آنذاك كانوا مرعوبين من «الأصولية المسيحية»، وهو شيء لم يعد له وجود الآن بعد انتصار الحداثة.
نقول ذلك ونحن نعلم أن نظرية الكون الأرسطوطاليسية كانت قد اعتمدت من قبل عالم الجغرافيا بطليموس، وهو عالم ظهر في القرن الثاني للميلاد، أي بعد موت أرسطو بستمائة أو سبعمائة سنة. وهو الذي ألف الكتاب الشهير باسم: «كتاب المجسطي» نحو عام 141 ميلادية، وقد ترجمه العرب في العصر الكلاسيكي، وفيه يشرح نظريته العامة ويقول بأن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس تدور حولها. وقد تحولت هذه الفكرة إلى حقيقة مطلقة منذ ذلك الوقت وحتى عصر النهضة قبل أن يظهر كوبرنيكوس وينقضها، وقد أحدث ذلك دويا هائلا في ذلك الزمان؛ فمن يستطيع أن ينقض الحقيقة المطلقة والمقدسة التي تهيمن على وعي الملايين منذ آلاف السنين؟ حقا لقد كان كوبرنيكوس ثوريا من الطراز الأول؛ إذ تجرأ على تغيير نظرتنا للكون والرؤية العامة للعالم. نقول ذلك خصوصا أن هذه الرؤية كانت راسخة في الوعي الجماعي منذ عشرين قرنا، فهل هناك ثورة معرفية أكبر من ذلك يا ترى؟
في الواقع أن نظيرة كوبرنيكوس تقوم على الملاحظة الفلكية الدقيقة بواسطة المراصد العلمية، وليس على العين المجردة والأحاسيس التي قد تغشنا كما هو معلوم، فظاهريا نلاحظ بالعين المجردة أن الشمس هي التي تدور حول الأرض لأنها تشرق صباحا من الشرق وتغرب مساء في الغرب، وبالتالي فهي التي تتحرك وليست الأرض. ولكن المظاهر خادعة وكذلك الحواس، فنحن لا نستطيع أن نحس بحركة الأرض ولا أن نراها، لأننا نقف عليها، ولكننا لو كنا نقف على سطح كوكب آخر لرأيناها تدور وتتحرك. والواقع أنها تدور حول محورها دورة واحدة كل يوم، كما أنها تدور حول الشمس دورة واحدة كل سنة، وبالتالي فهي تدور مرتين لا مرة واحدة.
ثم أكد كوبرنيكوس على الحقيقة التالية، وهي أن جميع الكواكب الأخرى تدور حول الشمس أيضا مثلما تفعل الأرض، وبالتالي، فالشمس هي مركز الكون وليس الأرض. فيما بعد اكتشف العلماء عن طريق مراصد أكبر وأضخم أن هناك شموسا أخرى في الكون غير شمسنا، وأن هناك مجرات غير مجرتنا، ولكن هذه مسألة أخرى. ويكفي كوبرنيكوس ما استطاع أن يتوصل إليه في عصره، فلولا اكتشافاته المذهلة الرائدة لما حصلت الاكتشافات اللاحقة.
وكما كان متوقعا، فإن معظم علماء القرن السادس عشر رفضوا نظرية كوبرنيكوس. وحدهم عشرة فقط من كبار الباحثين أيدوها واعترفوا بصحتها، ولكن ربما كان هناك علماء يقفون معها دون أن يتجرأوا على إعلان ذلك صراحة خوفا من الكنيسة ومحاكم التفتيش. وفي عام 1588، أي بعد أربعين سنة أو أكثر من موت كوبرنيكوس، ظهر عالم دنماركي كبير يدعى تيشو براهمي، وقد اعترف بصحة بعض مبادئ نظرية كوبرنيكوس، ورفض بعضها الآخر. ولكن الكنيسة المسيحية الكاثوليكية رفضت النظرية جملة وتفصيلا عام 1616 وأدانتها بشكل رسمي عن طريق إصدار فتوى لاهوتية، وفي الوقت ذاته كان غاليليو من أكبر المتحمسين لها، ولذلك أدانته الكنيسة هو الآخر بدوره عام 1633.
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل؟
وبالتالي، فأي قلب للمنظور الراسخ السائد في أي مجال من المجالات المعرفية يدعى: ثورة كوبرنيكية. بهذا المعنى، فكل الفلاسفة والعلماء الكبار في العصور الحديثة قاموا بثورات كوبرنيكية.
ولد نيكولا كوبرنيكوس يوم التاسع عشر من شهر فبراير (شباط) عام 1473 في مدينة بولونية تدعى تورون، ومات عام 1543 في مدينة أخرى تدعى فرومبورك. وهذا يعني أنه عاش سبعين سنة، وهو عمر طويل بالنسبة لذلك الزمان. وكانت ولادته في عائلة من التجار والموظفين. ولكن والده مات مبكرا عام 1483، أي عندما كان عمره عشرة أعوام فقط، فتبناه خاله مطران مدينة كراكوفيا وسهر على صحته وتعليمه. وقد حرص على إدخاله إلى أفضل المدارس والجامعات. وفي عام 1491م دخل إلى جامعة كراكوفيا، حيث درس الصناعات والحرف، ولكن من دون أن ينال أي شهادة.
وقبل أن يترك مدينة تورون عينه خاله كاهنا قانونيا في مدينة فرومبورك، حيث أشرف على الشؤون المالية للكنيسة، ولكن دون أي مسؤولية دينية. ثم سافر بعد ذالك إلى إيطاليا، حيث درس القانون الشرعي المسيحي والطب في جامعة بولونيا الإيطالية. كما درس بعد ذلك علم الفلك على يد عالم كبير يدعى دومينيكو ماريا نوفارا. وكان أول عالم يطرح الشكوك حول نظرية بطليموس السائدة منذ مئات السنين والقائلة بأن الشمس تدور حول الأرض وأن الأرض هي مركز الكون. ومنذ البداية، راح كوبرنيكوس يهتم بعلم الجغرافيا والفلك اهتماما خاصا متزايدا. وقد شجعه أستاذه على تعميق معارفه في هذا الميدان. وقد راحا – كلاهما – يقومان بتجارب علمية كثيرة عن طريق مراقبة السماء، ككسوف القمر مثلا وسوى ذلك.
وبعدئذ أصبح كوبرنيكوس أستاذا للرياضيات ومحاضرا في علم الفلك في روما عام 1500، قبل أن يعود في السنة التالية إلى فرونبورغ، ثم عاد بعد ذاك إلى إيطاليا لإكمال دراساته في علم القانون والطب في جامعة بادوا، وهي الجامعة التي درّس فيها غاليليو علم الفيزياء والفلك بعد مائة سنة من ذلك التاريخ.
وبعد أن أكمل دراساته، أنشأ مركزا لمراقبة النجوم في مدينة فرونبورغ، وانخرط في بحوثه وتجاربه العلمية لسنوات طويلة. وكان كوبرنيكوس يجيد اللاتينية تماما. وهي لغة العلم والفكر في ذلك الزمان. وقد نشر أول كتاب له بها عن الأخلاق. ولكن كتابه هذا لم ينشر إلا بعد ثلاثة أو أربعة قرون؛ أي في القرن التاسع عشر.
وفي هذا الكتاب استعرض أفكاره الأساسية عن علم الفلك، وقال بأن الشمس هي مركز الكون، وليس الأرض. وقد أذهلت هذه الفكرة كل علماء عصره، ولم يصدقوها في البداية.
ولكن كوبرنيكوس لم ينجز كتابه الكبير عن ثورات الأفلاك السماوية إلا عام 1530. ولم ينشره إلا يوم 24 مايو (أيار) عام 1543، أي وهو على فراش الاحتضار. وقد فعل ذلك عن قصد لكي لا تصيبه الكنيسة بأذى أو تلاحقه. فماذا يمكن أن تفعل به وهو يموت؟ فقد كان يعرف أنه يزعزع الأفكار السائدة في عصره عن بنية الكون بسمائه وأرضه. ومعلوم أن الكنيسة المسيحية كانت قد تبنت منذ قرون طويلة نظرية بطليموس وأرسطو عن تركيبة الكون، وهي النظرية التي تقول بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس تدور حولها كما هو ظاهر للعين المجردة. وخلعت الكنيسة على هذا الاعتقاد طابع القداسة الدينية المطلقة التي لا يجوز لأحد أن يمسها، واعتبرت أن كل من يشكك فيها كافر أو ملحد. وبالتالي، فجزاؤه محاكم التفتيش القاضية بالقتل والموت حرقا هو وكتبه. لهذا السبب كان كوبرنيكوس حذرا جدا، فلم ينشر كتابه الكبير إلا في يوم موته، أو قل إنه أوصى الناشر بأن يتأخر في نشره حتى مرض وشعر باقتراب الأجل، فصادف أن تم نشره في يوم الاحتضار بالذات. وهكذا أدى هذا العالم الجليل رسالته ثم أغمض عينيه ومضى.
ومعلوم أن فلسفة أرسطو كانت تحظى بالمعصومية الدينية في العالم المسيحي بعد أن تبناها القديس توما الأكويني وصالح بينها وبين العقيدة المسيحية. وكانت نظرية أرسطو تقول ما يلي: الأرض هي مركز الكون، وكل الأفلاك والنجوم الأخرى تدور حولها كالقمر وعطارد، والزهرة، والشمس، وكل شيء. وبالتالي فهذه العقيدة التي سيطرت على عقلية الناس طيلة ألفي سنة لم يكن من السهل على أحد أن يضعها موضع الشك أو ينقضها. كان ذلك بمثابة العدوان على عقائد البشر وإيمانهم ومقدساتهم. ولهذا السبب تعرض غاليليو للمحاكمة حتى بعد مائة سنة من موت سلفه العظيم كوبرنيكوس. ولم ينج برأسه إلا بعد أن تراجع عن النظرية الجديدة.
والواقع أن محاكم التفتيش لم تكن تمزح آنذاك فيما يخص الشؤون العقائدية؛ فأي انحراف عن مبادئ الكنيسة وأفكارها كان يعتبر خروجا عن الدين. ولذلك خاف ديكارت بعد أن سمع بمحاكمة غاليليو وأجل لبعض الوقت نشر كتابه الشهير: «مقال في المنهج»، وهو كتاب يؤيد نظرية كوبرنيكوس عن أصل الكون وتركيبته ودوران الأرض حول الشمس وليس العكس. ولم ينشره إلا لاحقا دون ذكر اسم المؤلف. وهكذا تحاشى الملاحقة الكنسية له. هكذا نلاحظ أن فلاسفة أوروبا آنذاك كانوا مرعوبين من «الأصولية المسيحية»، وهو شيء لم يعد له وجود الآن بعد انتصار الحداثة.
نقول ذلك ونحن نعلم أن نظرية الكون الأرسطوطاليسية كانت قد اعتمدت من قبل عالم الجغرافيا بطليموس، وهو عالم ظهر في القرن الثاني للميلاد، أي بعد موت أرسطو بستمائة أو سبعمائة سنة. وهو الذي ألف الكتاب الشهير باسم: «كتاب المجسطي» نحو عام 141 ميلادية، وقد ترجمه العرب في العصر الكلاسيكي، وفيه يشرح نظريته العامة ويقول بأن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس تدور حولها. وقد تحولت هذه الفكرة إلى حقيقة مطلقة منذ ذلك الوقت وحتى عصر النهضة قبل أن يظهر كوبرنيكوس وينقضها، وقد أحدث ذلك دويا هائلا في ذلك الزمان؛ فمن يستطيع أن ينقض الحقيقة المطلقة والمقدسة التي تهيمن على وعي الملايين منذ آلاف السنين؟ حقا لقد كان كوبرنيكوس ثوريا من الطراز الأول؛ إذ تجرأ على تغيير نظرتنا للكون والرؤية العامة للعالم. نقول ذلك خصوصا أن هذه الرؤية كانت راسخة في الوعي الجماعي منذ عشرين قرنا، فهل هناك ثورة معرفية أكبر من ذلك يا ترى؟
في الواقع أن نظيرة كوبرنيكوس تقوم على الملاحظة الفلكية الدقيقة بواسطة المراصد العلمية، وليس على العين المجردة والأحاسيس التي قد تغشنا كما هو معلوم، فظاهريا نلاحظ بالعين المجردة أن الشمس هي التي تدور حول الأرض لأنها تشرق صباحا من الشرق وتغرب مساء في الغرب، وبالتالي فهي التي تتحرك وليست الأرض. ولكن المظاهر خادعة وكذلك الحواس، فنحن لا نستطيع أن نحس بحركة الأرض ولا أن نراها، لأننا نقف عليها، ولكننا لو كنا نقف على سطح كوكب آخر لرأيناها تدور وتتحرك. والواقع أنها تدور حول محورها دورة واحدة كل يوم، كما أنها تدور حول الشمس دورة واحدة كل سنة، وبالتالي فهي تدور مرتين لا مرة واحدة.
ثم أكد كوبرنيكوس على الحقيقة التالية، وهي أن جميع الكواكب الأخرى تدور حول الشمس أيضا مثلما تفعل الأرض، وبالتالي، فالشمس هي مركز الكون وليس الأرض. فيما بعد اكتشف العلماء عن طريق مراصد أكبر وأضخم أن هناك شموسا أخرى في الكون غير شمسنا، وأن هناك مجرات غير مجرتنا، ولكن هذه مسألة أخرى. ويكفي كوبرنيكوس ما استطاع أن يتوصل إليه في عصره، فلولا اكتشافاته المذهلة الرائدة لما حصلت الاكتشافات اللاحقة.
وكما كان متوقعا، فإن معظم علماء القرن السادس عشر رفضوا نظرية كوبرنيكوس. وحدهم عشرة فقط من كبار الباحثين أيدوها واعترفوا بصحتها، ولكن ربما كان هناك علماء يقفون معها دون أن يتجرأوا على إعلان ذلك صراحة خوفا من الكنيسة ومحاكم التفتيش. وفي عام 1588، أي بعد أربعين سنة أو أكثر من موت كوبرنيكوس، ظهر عالم دنماركي كبير يدعى تيشو براهمي، وقد اعترف بصحة بعض مبادئ نظرية كوبرنيكوس، ورفض بعضها الآخر. ولكن الكنيسة المسيحية الكاثوليكية رفضت النظرية جملة وتفصيلا عام 1616 وأدانتها بشكل رسمي عن طريق إصدار فتوى لاهوتية، وفي الوقت ذاته كان غاليليو من أكبر المتحمسين لها، ولذلك أدانته الكنيسة هو الآخر بدوره عام 1633.