شعر: أنور الخطيب
الشمس منتصفُ السماء،
النهار مفعمٌ بظلّ اشتهاءٍ ناقصٍ
وبعضِ ظلِّ من حنينْ
تحنو الظلال على بعضها
وتجثو ولا من أنينْ
الظلال أفسدت أمزجةَ الطيرِ
نقاوةَ الماءِ، براءَةَ العشبِ
وقبلةَ الدربِ للرياحينْ
الظلال بعضها مكسورُ الجناحِ
بعضها يقلّد نيرون بلا نار
ولا نور ولا ماء
ولا غناءَ ولا رنينْ
كلٌ يعاقر ظلَّه بلا رغبة أو شهوةٍ
الرجال يحبلون بالنساءِ
والنساءُ تحبلن بالرجالِ
تكشفُ الظلال عن ظلالها خلسةً
تكشف العتمةُ عن ظل عتمةِ المعتِمين:
ظل مقاتلٍ يحمل ظلَّ بندقيةٍ
يحرس ظلَّ قائدٍ يلقي ظلَّ خطبةٍ
أمام حشدٍ من ظلالِ المتعبينْ
ظلُّ عاشقٍ يحضن ظلَّ وردةٍ
في رأسهِ ظلُّ قصيدةٍ لظلِّ شاعرٍ
هائمٍ في ظلال الهائمينْ
ظلُّ طفلٍ يحمل ظلَّ حقيبةٍ
ذاهبٍ إلى ظلِّ مدرسةٍ، وظلالِ مدرّسين
ظلُّ عجوزٍ يتكئ على ظلِّ عكازةٍ
يتهجى ظلالَ السنين
ظلُّ زوجٍ بالقرب من ظلِّ زوجِه
يخرجان من ظلِّ بيتٍ محاطٍ
بظلِّ سورِ الياسمينْ
ظلُّ حمامةٍ فوق ظلِّ مسجدٍ
يطل على ظلالِ الساجدينْ
ظلُّ بحرٍ على ظلِّ شاطئٍ
يتمطى تحت ظلِّ غارقينْ
ظلالُ قادمينَ في ظلِّ زورقٍ
كي ينقذوا الظلالّ من ظلالها
يحملون ظلَّ شعاراتٍ
ظلالَ أدويةٍ وأكياسَ طحينْ
ينسحبون بظل خفّي حنينْ!!
تعقد الظلالُ مؤتمراً حول الفجيعةٍ
تُصدِرُ ظلَّ بيانٍ
تنشره ظلُّ صحافةٍ تقرأه ظلال قارئينْ
يحتجُّ شاعرٌ بالخروجِ من عزلتِه
بقصيدةٍ غير موزونةٍ وغير حديثةٍ
لا رموزَ فيها أو تناصّ أو أيّ تضمينْ
يرفض فيها احتلالَ الظلالِ أبجديةَ التلالِ
ويرقص فيها على بحره الخاص
ينهيها بألف ظلٍ وألف سؤالْ
تشمّها الظلالُ وهي تستريحُ من ظلالِها
يلعنه قادة الظلال فيُمسي مع الكافرينْ··
ربَّ الظلال والضالين:
ظلالُ من هذه؟ ما أصلُها؟
من أصحابُها، تاريُخها، ديانتُها،
مذاهبُها، لغاتُها، أسماؤها، فصيلةُ دمها؟
من أي أرضٍ أتت؟
هل لنا بينها أصدقاء، أقرباء أو محبين؟
تقول أسطورة الظلال:
”من يعجز عن صنع ظله منتصف النهار
يعجز عن صنعه في الصباح أو المساءِ
ويصبح ظلاً لآخرين··”
تقول أسطورة القتلى:
أن روح القتيل تصير هامةً
تجاورُ قبرَه وتلحّ:
”اسقني من دماء القاتلين”·
يقول أصحابُ الكلامِ
أن الظلالَ دليل أحياء
تعكس الشمسُ أرواحَهُم عتمةً
ولم تتوحّد ظلالهم مع الشمس بعد
ولم تتوحّد على الأرض مع الموحِّدينْ
فماذا تقول الأساطيرُ
أصحابُ الكلام
عن ظلالٍ تخلّت عن ضوئِها:
ردّة أم ظاهرةٌ طبيعيةٌ؟
أو معجزةٌ لظلِّ عاجزين؟
أغلبُ الظّن أن أسطورةَ القتلى
بدّلت شكلها كالسرطان في جسد المسرطَنين
فصارت الهامات أشبه بالظلال وهكذا،
تخلّص القتيل من ثأره
والثورة من ثوارها
والقبور تحرّرت من صراخ الطيور
والمطالبِين بالثأر والمطالَبين،
كي يسودَ السلامُ والظلامُ بين الظالمين
أو تتساوى الضحيةُ بالمعتدينْ··
رب الظلال
كأن الشمسُ تشرق من مغربها
وظل آدم يخرج من ظل حواء
رب الظلال
كل الظلال تبكي أمام ظل حائط
تقرأ الآيات من يسارٍ إلى يمينْ،
تقرع الكؤوس بصحّة العجل السمينْ
رب الظلال والهلال والسؤال والسائلينْ
يسكنني ظلُّ شاعرٍ هاربٍ من ظلاله
يحمل كراسةً يكتب فيها لونَه وجنسَه
وطولَه وعرضَه ووزنَه ومكان ميلاده
أسماءَ ذويهِ، أنواعَ أشجارِه،
مساحةَ تربتِه، أيامَ حزنِه، أوقات أفراحِه
تاريخَ هجرتِه، أنواعَ منفاه وغربتِه
أشكالَ حصارِه، أسماءَ جلاديهِ
وموتاه وقتلاه وجرحاه
والحدودَ التي أدارتْ له ظهرَها
والعيونَ التي غضّت عن آلامه طرفَها
يكتب في كراسته نبوءاتِه
من علاماتنا الكبرى تحوُّلنا إلى ظلالٍ
لا روحَ فيها ولا قتالَ سوى نِعالِ
يرفع السطح للتلال
والهزالَ إلى نِزال
تحاصرني ظلال حراس الظلال
تصادر كراستي، أبجديتي
أغامر بالسؤال: من أنتم؟
ما عطرُ تربتِكم، واسمُ قريتِكم،
ولونُ بشرتِكم، حدود دولتكم؟
ما ملامحُكم؟ أين تسجنون دماءكم؟
ولماذا تسكنون عتمتَكم،
وتُظْلِمون مع المُظلِمين؟
تجيب الظلالُ بصوتِ احتكاك الرقاب بالسكاكين:
”نحن نشبهُك،
تربتُنا تربتُك
قريتُنا قريتُك،
ولونُ بشرتِنا مثل بشرتِك،
وظلُّنا نَسَخَتْهُ شمسٌ من وراء البحار،
نحن في النور، ظلالُنا مرئيةٌ، فأين ظلّكْ؟
قلت: الشمس منتصف السماء،
أخبئ ظلي عن الشمس كي لا أموت··
يقتادني ظلالُ حراسِ الظلال إلى رئيس ظلالِهم
وأظنّهم قالوا:
”وجدنا سارقَ الظلالِ يا سيدي، أنقتلُه
أم نعيرُه ظلَّ شاعرٍ هاربٍ من ظلالهِ”؟
قلت: كيف احتفظتم بظلِّه وهو هاربٌ؟
سارعوا: أنقتله سيدي، ونمتطي ظله؟
قلت: حين أموت يشمس ظلي؟
قالوا: أنت حي ولا ظل لك،
ربما حين تموت ينبت ظلك،
”إنه ميت فاتركوه”
تحرك ظل رئيس الظلال
ليكتب فوق التراب جملةً:
”بعد قليل سينبت ظلك
ويهتدي إليك قاتلوك،
ارتدَ عتمة مثلنا
وامض إلى حيث شئتَ فلن يجدوك
علاماتك الصغرى أن تفتش عن ظلالك
علاماتنا الكبرى: إننا قاتلوك··”