تأملات لاجئ متمرس!
حين وُلِدت ابنتي الكبرى، باشرت في الحصول لها على بطاقة هوية، أي تلك البطاقة الخضراء التي كنا نسميها (الملحفة) لكبر حجمها، تضاءل حجمها وصغر على مر سنوات اللجوء حتى أصبحت على شكل ورقة صغيرة واحدة، ويبدو أن حجم البطاقة انكمش كنتيجة منطقية لانكماش القضية الفلسطينية ذاتها. على كل حال، الوجه الأول للبطاقة يحتوي على المعلومات، والوجه الثاني على تعليمات، وكنا نلجأ إلى تغليفها بغلاف أبيض كي لا تذيبها عوامل الزمن.
أتعمّد كثيرا قراءة الأوراق الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، وأتمعّن بالأسلوب واللغة. لقد صعقتني الصيغة التي كُتبت فيها المعلومات: (تشهد إدارة شؤون الللاجئين الفلسطينيين أن دانة هي لاجئة فلسطينية مقيمة في لبنان). قد يمر البعض مرور الكرام على هذه الجملة، لكن الصيغة أذهلتني، خاصة حين نظرت إلى صورة ابنتي على بطاقة الهوية، صورة طفلة جميلة جداً، مبتسمة للدنيا. لم أتمالك نفسي وأنا أقارن بين جمال ابنتي وقبح كلمة “لاجئة”، وقلت: ها هي الإدارة تعترف بك لاجئة يا ابنتي، أي إنجاز كبير هذا! وأي شرف! وأي انتماء!
ما سبق لا يعني أبدا أن اللاجئ يجب أن يتمتع بوجه قبيح، لكن التعامل مع اللاجئ كان ولا يزال يحمل دلالات لا تدل على الاحترام، وكأن الإنسان الطارئ على المكان هو إنسان طارئ على الحياة، وبالتالي كانت تصفية اللاجئين على أنهم أناس مؤقتون على هذه الأرض، ومؤقتون في الحياة ذاتها، لهذا فإن قتل اللاجئ أو ذبحه أو سرقته أو المتاجرة به لم يكن يحمل تأنيبا كثيراً لفاعليه.
اللاجئ لا يمكن أن يكون قبيحاً، ومن يراه تنقصه الكثير من التربية الإنسانية، ولو فكّر قليلا بصورة اللاجئ لرآها من أجمل الصور.
أنا أرى اللاجئ جميلا، بل أجمل مخلوقات الكون، لأنه يحمل وطناً في خلاياه، ويحتضن ذكريات وروائح الخصوبة والشوق، ويفتح قلبه دائما للحب. ولهذا، وهذا استطراد، فإن اللاجئ حين يعشق، يكون عشقه مجنوناً، لأنه يبدأ ببناء وطن في وجه حبيبته، وشيئا فشيئا يصبح وجه حبيبته مقدساً.
أعلم تمام العلم أن صيغة بطاقة الهوية سياسية لا علاقة لها بالعواطف ولا بتداعيات شاعر، ومن صاغها لا شك أنه شخص يتمتع بالذكاء السياسي أو الخبث، فالبطاقة تقول أن صاحبها لاجئ، وليس مقيماً، أي أنه لا ينتمي إلى جالية فلسطينية، لأن مصطلح “الجالية” يتطلب وجود سفارة تابعة لدولة مستقلة.
لم يتغير واقع الحال ولا الصيغة حتى بعد افتتاح سفارة، لا يزال الوضع القانوني للفلسطيني يحمل صفة “لاجئ”، أي لا يمكن احتسابه مواطناً من أي درجة كانت.
أقول، كان يمكن لإدارة شؤون اللاجئين أن تعتمد صيغة أخرى أكثر أدباً، وليس أكثر دقة، كأن تتضمن البطاقة معلومات شخصية، مع وجود خانة للجنسية، وفي هذه الحالة فإن الجنسية ستكون فلسطينية، ولكن حتى هذه الصيغة تثير حساسية السياسيين الذين لا يريدون أن يتحول الفلسطينيون إلى جالية، لأن ذلك يمنحهم حقوقا كثيرة، لا تستطيع الدولة تأمينها أو تطبيقها، أو لا ترغب في ذلك.
حين قدمت “وثيقة سفري” إلى ضابط الجوازات في مطار روما ، قلّبها على وجهها وظهرها وقرأ كل حرف فيها وأعادها إلي قائلا: (ما هذا الشيء؟)، فأخبرته أنه جواز سفر، فقال (لا، ليس جواز سفر، ولا يحق لك الدخول.. آسف)، حاولت شرح الموضوع بكل اللغات التي أعرف لكنه رفض الاقتناع بأن كان بين يديه هو جواز سفر، ولو كان يتحدث لهجتنا لقال لي هذه (ملحفة)، وأخيرا طلبت منه أن يقرأ رجاء السلطات تسهيل مهمة حامل هذه الوثيقة، فابتسم وقام بحركة من كفه كأنه يهش الذباب عن وجهه، مع ابتسامة ساخرة. وكانت النتيجة أن قضيت 24 ساعة في صالات المطار.
لن تترك هذه القصص أثراً عميقا في نفوس قرائها، لأن اللاجئ الفلسطيني أصبح (موضة قديمة)، متمرس في اللجوء، والسلطة الفلسطينية متمرسة في السكوت عن ملايين اللاجئين، حتى الأونروا تحاول نفض يدها من قضية اللاجئين، والأمم المتحدة منشغلة باللاجئين السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين والصوماليين والأفارقة.
الآن، وبعد تأزم المشهد العربي، نطرح سؤالا: ترى لو فتحت السفارات الأجنبية أبوابها لهجرة المواطنين العرب، ما هي النسبة التي ستهجر أوطانها؟ وهل سيحدث نفس الشيء للفلسطينيين في الداخل والشتات؟
صحيفة الحدث الفلسطيني
http://alhadath.ps/article.php?id=141aea8y21081768Y141aea8